آخر الأخبار

العلم الوطني بين التداول التجاري والقداسة الرمزية: تأملات في أكياس تبضّع Kazyon Market

عبد الله مشنون
كاتب صحفي ومحلل سياسي مقيم في إيطاليا
مهتم بالشؤون العربية، قضايا الهجرة والاسلام.

لا تكتسب الرموز الوطنية قيمتها من مادتها الفيزيائية، بل من حمولة المعنى التي راكمتها عبر التاريخ والوجدان الجماعي. فالعلم الوطني، بوصفه تمثيلًا سياديًا للدولة، لا يُختزل في ألوان أو أشكال هندسية، بل يتجاوزها ليغدو تعبيرًا مكثفًا عن الذاكرة المشتركة، والشرعية السياسية، والانتماء الرمزي للجماعة الوطنية.
من هذا المنطلق، لا يمكن قراءة الواقعة المرتبطة بأكياس تبضّع Kazyon Market، التي ظهر عليها العلم المغربي كاملًا وقد انتهى مآله الطبيعي ضمن النفايات، قراءة سطحية محصورة في حدود التسويق أو التصميم الغرافيكي.
فالمسألة، في عمقها، ليست حادثة عابرة ولا جدلًا انفعاليًا، بل لحظة كاشفة لإشكال بنيوي أعمق: حدود قابلية الرموز السيادية للتداول داخل المجال الاستهلاكي.
من القانون إلى الأخلاق الرمزية
صحيح أن الإطار القانوني المغربي لا يتضمن نصًا صريحًا يمنع استعمال العلم الوطني في الإعلانات أو المواد التجارية، ما دام ذلك لا يتضمن قصد الإهانة أو التحقير. غير أن الاقتصار على هذا المستوى القانوني يظل قاصرًا عن استيعاب البعد الرمزي-الأخلاقي للمسألة. فالدولة الحديثة لا تُدار بالقانون وحده، بل أيضًا بمنظومة من الأعراف الرمزية غير المكتوبة، التي تضبط العلاقة بين المقدّس المدني واليومي الاستهلاكي.
في الأنثروبولوجيا السياسية، يُنظر إلى العلم بوصفه «جسمًا رمزيًا» للدولة، له قابلية التقديس المدني، ويُستحضر في لحظات الإجماع والاحتفال والتضحية. وعندما يُنقل هذا الرمز من فضائه الرمزي إلى فضاء الاستهلاك السريع، حيث تُستعمل الأشياء مرة واحدة ثم تُرمى، فإننا نكون أمام انزياح دلالي يستدعي التفكير، لا الإدانة.
السوق وحدود المعنى
السوق، بطبيعته، فضاء محايد للقيم، يمتص الرموز ويعيد توظيفها ضمن منطق الجاذبية البصرية والانتشار. غير أن هذا المنطق، حين يُطبّق دون حساسية ثقافية، قد يُفضي إلى تفريغ الرموز من شحنتها المعنوية. فهل يجوز، من منظور أخلاقي-استراتيجي، أن يتحول العلم الوطني إلى عنصر بصري قابل للإتلاف؟
وهل يمكن للفعل التجاري، مهما حسنت نواياه، أن يتجاهل الأثر الرمزي غير المقصود لمخرجاته؟
هذه الأسئلة لا تستهدف فاعلًا اقتصاديًا بعينه، بقدر ما تفتح أفقًا تأصيليًا لنقاش وطني أوسع حول الحوكمة الرمزية داخل المجال العمومي، وحول مسؤولية الفاعلين الاقتصاديين في مجتمع تتقاطع فيه الدولة، والسوق، والذاكرة الجماعية.
نحو ميثاق أخلاقي للرموز السيادية
إن واقعة Kazyon Market، بعيدًا عن أي منطق للتشهير أو التصعيد، تمثل فرصة معرفية لإعادة التفكير في الحاجة إلى ميثاق أخلاقي غير ملزم قانونيًا، لكنه موجّه سلوكيًا، ينظم استعمال الرموز الوطنية في الإشهار والتسويق. ميثاق يُميز بين الاستلهام الثقافي المشروع، وبين الاستعمال المباشر للرموز السيادية في مواد استهلاكية زائلة.
فالبدائل الإبداعية متاحة وثرية: الألوان الوطنية، الزخارف المستوحاة من التراث المغربي، أو الرموز الحضارية الجامعة، كلها عناصر قادرة على تحقيق الغاية التسويقية دون المساس بالمكانة الاعتبارية للعلم الوطني.
خاتمة:
في النهاية، لا يتعلق الأمر بكيس تبضّع، ولا بصورة متداولة على منصات التواصل، بل بسؤال أعمق عن علاقتنا المعاصرة بالرمز:
كيف نحمي ما يوحّدنا رمزيًا في زمن تسليع كل شيء؟
وأين نقف، كدولة ومجتمع، بين حرية السوق وواجب التوقير الرمزي؟
إن العلم المغربي ليس عنصرًا استهلاكيًا، بل علامة سيادية جامعة، واحترامه لا يُقاس بنية الفاعل فقط، بل أيضًا بمآل الفعل في المجال التداولي. ومن هنا، يصبح النقاش الهادئ حول هذه الواقعة تمرينًا جماعيًا على الوعي الرمزي، وعلى بناء توازن ناضج بين الإبداع التسويقي وصيانة المعنى.

المقال التالي