آخر الأخبار

بعد مأساة أسفي.. هل ستصل تعويضات صندوق الكوارث إلى «المنكوبين»؟

بينما لا تزال رائحة الطين والمياه الراكدة تعبق في أزقة أسفي القديمة، وتبحث الأسر عما تبقى من ذكرياتها تحت الأنقاض، يرتفع صوت واحد أكثر إلحاحاً من كل الأصوات: متى؟ متى تصل تعويضات صندوق التضامن ضد الوقائع الكارثية إلى أولئك الذين فقدوا بيوتهم وأحباءهم ومعاشهم في ليلة واحدة؟ هذا السؤال لم يعد مجرد استفسار، بل تحوّل إلى اختبار حقيقي لمصداقية نظام حماية اجتماعية يُفترض أنه صُمم خصيصاً لمثل هذه اللحظات، وهو اليوم موجَّه بشكل مباشر إلى رئيس الحكومة عزيز أخنوش.

عتبة التصنيف.. بوابة مغلقة بانتظار توقيع رئيس الحكومة

قبل أي شيء، وقبل أن يتمكن أي ضحية من تقديم طلب، يجب أن يوقّع رئيس الحكومة أخنوش على قرار أساسي: تصنيف أحداث أسفي كـ«واقعة كارثية». هذا الإجراء ليس شكلاً بيروقراطياً روتينياً، بل هو البوابة الإلزامية الوحيدة التي تفتح خزائن الصندوق. القانون يمنح رئيس الحكومة مهلة 90 يوماً لاتخاذ هذا القرار، وهي مدة قد تمتد لأشهر، بينما يعيش المنكوبون في خيم مؤقتة أو لدى أقاربهم. الغياب أو التأخير في هذا القرار لا يُعد تقصيراً إدارياً عادياً، بل يترجم عملياً إلى إطالة أمد المعاناة وحرمان المواطنين من حق قانوني كفله لهم الدستور والنظام المؤطر للصندوق. سؤال «متى؟» يبدأ من هنا: متى سيصدر القرار الذي يحوّل الضحايا من «متضررين من أمطار غزيرة» إلى «مستحقين لنظام تعويضات وطني»؟

مفارقة التمويل.. عندما يتحول التضامن إلى عبء إضافي على الفقراء

تتجلى هنا واحدة من أكثر المفارقات إيلاماً. المواطنون، بمن فيهم سكان المناطق الفقيرة والمعرضة للكوارث، يساهمون في تمويل الصندوق عبر رسوم إضافية على التأمينات بنسبة 1.5 في المائة. غير أنه عند حلول لحظة الاستفادة، يُطبق عليهم ما يُعرف بـ«نسبة التخفيض»، التي قد تصل إلى 70 في المائة من قيمة التعويضات، بدعوى «الوضعية المالية للصندوق». بمعنى آخر، يموّل الضحايا شبكة الأمان التي ستقلّص تعويضهم عندما تصيبهم الكارثة. هذا منطق يُفرغ مفهوم التضامن من محتواه، ويحوّله إلى آلية مالية معكوسة تضع العبء الأكبر على من يتحملون الخسارة الأكبر. فهل ستُخضع تعويضات ضحايا أسفي لهذا التخفيض؟ سؤال آخر ينتظر بدوره جواباً واضحاً.

متاهة المساطر.. وثائق مفقودة في الفيضان وحقوق ضائعة في الإجراءات

حتى في حال صدور قرار التصنيف، تبدأ رحلة معاناة جديدة. يُطلب من الضحية التسجيل في سجل وزارة الداخلية داخل أجل 90 يوماً، ثم إعداد ملف يتضمن وثائق ملكية أو كراء، وشواهد طبية، وإثباتات قد تكون السيول قد جرفتها. كيف لأسرة هرعت ليلاً لإنقاذ أطفالها من الغرق أن تفكر في حماية وثيقة عقارية؟ النظام يفترض، ضمناً، أن الضحية متمرس في المساطر الإدارية، وقادر على التنقل بين الإدارات في لحظة صدمة وفقدان. هذه المتاهة الإجرائية تُعد عملياً عاملاً حاسماً في إقصاء الفقراء وكبار السن والأميين من الاستفادة من حقوقهم، وتصنع واقع «منكوبين من الدرجة الثانية»: من يملكون الإثباتات الورقية، ومن لا يملكونها.

تعويضات مشروطة.. السكن يُعوض والرزق يُنسى

وحتى من ينجح في تجاوز كل هذه العراقيل، يواجه تعويضاً محدوداً ومجزأً. يركّز الصندوق على «فقدان المسكن الرئيسي» و«الأضرار البدنية»، بينما تكشف مأساة أسفي أن الخسائر لم تقتصر على الجدران، بل امتدت إلى مصادر العيش. محلات تجارية صغيرة غمرتها المياه وكانت تؤمّن قوت عائلات بأكملها، ومركبات نقل جرفتها السيول وكانت تمثل رأس المال الوحيد لأصحابها. هذه الخسائر الاقتصادية المدمرة لا يشملها التعويض. والنتيجة أن أسرة قد تحصل، بعد انتظار طويل، على مسكن بديل، لكنها تفقد في المقابل قدرتها على كسب لقمة العيش، لتجد نفسها في دوامة فقر ممتد. يصبح التعويض، في هذه الحالة، أشبه بمحاولة ترميم السقف فيما الأساس متصدع.

استنزاف الموارد.. لماذا نعالج الآثار بدل أن نمنع الأسباب؟

خلف سؤال «متى تصل التعويضات؟» يبرز سؤال أعمق يحرج الحكومة برئاسة أخنوش: لماذا نصل أصلاً إلى الحاجة لتعويضات بهذا الحجم؟ سكان أسفي عبّروا بمرارة عن تساؤل بسيط ومباشر: «لماذا لم تأتِ شاحنات لشفط المياه؟». هذا السؤال يمس جوهر فلسفة تدبير الموارد العمومية. فالمليارات التي تتدفق إلى الصندوق من الرسوم المرتفعة تُوجَّه غالباً لمعالجة النتائج، بينما يظل الاستثمار في الوقاية، من بنية تحتية للصرف الصحي وتطهير الأودية وتخطيط عمراني آمن، محدوداً. بهذه المقاربة، تُنقل الموارد من منطق المنع الاستباقي إلى منطق التدخل بعد وقوع الكارثة، بما يفتح الباب أمام تكرار المأساة.

اختبار المصداقية.. عقد الثقة بين المواطن والدولة على المحك

مأساة أسفي تتجاوز كونها حادثاً مناخياً عابراً، لتتحول إلى اختبار فعلي لخطاب «الدولة الاجتماعية». صندوق التضامن ضد الوقائع الكارثية ليس مجرد حساب مالي، بل تعبير عن عقد ثقة يفترض أن يربط الدولة بمواطنيها، خاصة الفئات الهشة. تعقيد المساطر، أو تأخير التعويضات، أو تقليص قيمتها، كلها مؤشرات على تصدّع هذا العقد.

سؤال «متى؟» الموجَّه إلى رئيس الحكومة عزيز أخنوش هو سؤال عن الكفاءة والإنصاف والالتزام. الإجابة الحقيقية لن تُقاس ببلاغات رسمية، بل بوصول أول درهم من التعويض إلى يد أرملة فقدت معيلها، أو إلى أسرة وجدت نفسها بلا مأوى في ليلة واحدة. سرعة هذا المسار، وشفافيته، وعدالته، ستكشف ما إذا كان الصندوق أداة فعلية للتضامن الوطني، أم مجرد آلية مالية أخرى تثقل كاهل الفقراء وتخذلهم في اللحظة التي يكونون فيها بأمسّ الحاجة للدعم.

المقال التالي