آخر الأخبار

«تراخيص تُمنح.. وأرواح تُزهق».. ماذا وراء الانهيار الذي أعاد طرح السؤال حول الرقابة الحضرية؟

لم تكن مجرد جدران انهارت في حي «المسيرة» بفاس في ذلك المساء الدامي، بل كانت فجوة عميقة في جدار الثقة بين المواطن والدولة. فاجعة العاشر من دجنبر 2025، التي أودت بحياة 22 شخصاً كانوا يحتفلون بالحياة وجرحت 16 آخرين، لم تكن حادثاً عابراً أو قضاءً وقدراً، بل كانت نتيجة حتمية لمعادلة سوداء: تجاوز مقصود، ومراقبة غائبة، فكارثة محققة. ما حدث لم يكن خبراً عابراً، بل جرس إنذار يقرع في ضمير المجتمع، داعياً إلى وقفة جادة ومحاسبة حقيقية قبل أن تتحول المدن إلى حقول ألغام عمرانية.

تفاصيل الجريمة المعمارية التي وقعت في فاس تدمي القلب قبل أن تدعو للغضب. أرض لا تتجاوز مساحتها 62 متراً مربعاً، وهي مساحة شقة متوسطة، شُيّد فوقها أربعة طوابق كاملة بدل طابقين (R+1) كحدٍّ أقصى قانوني. هذا ليس مجرد تجاوز بسيط، بل تحدٍّ سافر لقوانين الفيزياء والهندسة والقانون في آن واحد. أي مهندس معماري يوقّع على مخططات كهذه؟ وأي سلطة محلية تمنح رخصة بناء بهذا الشكل؟ وكيف يُسمح بحفر أساسات لا تتحمل هذا الوزن الهائل؟ هنا جوهر المأساة، حيث زُوّر الواقع على الورق قبل أن ينهار فوق رؤوس ساكنيه.

الخطيئة الأولى تبدأ من المكتب الهندسي والمهندس المعماري. مسؤوليتهم المهنية والأخلاقية تفرض احترام معايير السلامة وقوانين التعمير. توقيعهم على مخططات بناء أربعة طوابق فوق قطعة أرض بهذه الضآلة ليس إهمالاً، بل تزوير علمي وتواطؤ مباشر في جريمة متوقعة. هؤلاء شكّلوا الحلقة الأولى في سلسلة الموت بعدما منحوا المالك «شرعية» مزيفة لمشروع يهدد الأرواح.

تليهم الحلقة الإدارية، ممثلة في مصالح الجماعة أو العمالة المكلفة بمنح رخص البناء. كيف يمكن لملف بهذا الحجم من المخالفات أن يُعتمد ويُصدر بشأنه إذن بناء؟ هل جرى التغاضي عن المعطيات التقنية؟ أم أن نفوذاً مالياً أو اجتماعياً اخترق القانون؟ مسؤوليات هذه الحلقة، من الموظف البسيط إلى المسؤول المنتخب، ثابتة. قرارهم هو الذي منح الشرعية الرسمية لمشروع مشبوه، وحوّل الورق إلى واقع قاتل.

ثم تأتي الحلقة الأخطر: المراقبة الميدانية. دور الباشوات والقواد والمقدمين وأعوان السلطة والمصالح التقنية لا ينتهي عند منح الرخصة، بل يبدأ عندها. واجبهم هو التتبع اليومي للأوراش والتأكد من احترام المخططات. شهادات سكان حي «المسيرة» تؤكد أن البناء ارتفع طابقاً بعد آخر أمام أعين الجميع، ما يدين هذه الحلقة بشكل مباشر. غياب الرقابة، أو تقاعسها، أو تواطؤها، هو ما سمح للمبنى أن يتحول إلى قنبلة عمرانية.

هذا يقود إلى أصل الداء: ثقافة الإفلات من العقاب. من يعتقد أن ما حدث في فاس حالة معزولة يتجاهل تاريخاً من الكوارث، من «بوركون» الدار البيضاء إلى انهيارات متفرقة في مدن عدة. في كل مرة تُطلق الوعود نفسها وتُفتح التحقيقات ذاتها، بينما تُعاد المأساة بوجوه مختلفة. استمرار هذه الثقافة، حيث يُقدَّم صغار الموظفين كـ«كباش فداء» بينما يفلت المتورطون الحقيقيون، يشجع على التمادي.

عواقب هذه الفوضى العمرانية تتجاوز الأرواح المفقودة لتطال الثقة الاجتماعية. حين يرى المواطن بناءً مخالفاً يرتفع أمامه بوجود السلطة، يفقد الثقة في القانون وفي قدرة الدولة على حمايته. هذه الثقة المهدورة أخطر من المأساة نفسها، لأنها أساس استقرار أي مجتمع، ورسالة مفادها أن القانون قابل للالتفاف إن توفرت الوساطة أو النفوذ.

الحل لا يبدأ بعد وقوع الكارثة، بل قبلها. المطلوب هو منظومة وقائية صارمة، وانتقال من منطق ردّ الفعل إلى الفعل الاستباقي. ويشمل ذلك رقمنة مساطر رخص البناء عبر منصة موحدة تراجع المخططات تلقائياً وتكشف المخالفات، بما يقلل من العلاقات الشخصية ويحدّ من الفساد.

كما يجب تمكين المصالح التقنية والسلطات المحلية بالصلاحيات والموارد والكفاءات البشرية، مع ضمان الحماية القانونية لكل مهندس أو موظف يرفض التوقيع على مخالفة. حماية هؤلاء هي حماية للأرواح.

العدالة لضحايا فاس لن تتحقق بالتعازي ولا بمحاكمة بضعة أسماء فقط، بل بتفكيك منظومة كاملة من الفساد والتقاعس، من المهندس المزوّر إلى المسؤول الإداري المتواطئ. إنها رسالة بأن أرواح المغاربة ليست رخيصة، وأن أي مسؤولية تُهمل قد تتحول إلى دم بريء يراق في لحظة احتفال أو تجمع عائلي.

المقال التالي