أبناء مغاربة العالم بين مقتضيات الوثيقة وتحديات الواقع: دعوة إلى مراجعةٍ تراعي مصلحة الطفل والأسرة…

عبد الله مشنون
كاتب صحفي ومحلل سياسي
مهتم بالشؤون العربية، قضايا الهجرة والاسلام.
تواصل الدولة المغربية، تحت التوجيهات الملكية الساميّة لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، تعزيز جسور التواصل مع مغاربة العالم، تثمينًا لدورهم في تنمية الوطن وترسيخ حضوره الإنساني والحضاري خارج الحدود.
غير أنّ التحولات الاجتماعية المتسارعة تضع أحيانًا بعض المساطر الإدارية أمام واقع جديد يحتاج إلى قراءة دقيقة ومتوازنة، حفاظًا على حقوق المواطنين وضمانًا لانسجام النص مع الممارسة.
ولعلّ الدافع المباشر الذي جعلني أتناول هذا الموضوع اليوم، هو كثرة الاتصالات والرسائل التي توصلتُ بها من مغاربة العالم، وخاصة من إيطاليا، يشتكون فيها من حجم المعاناة التي يعيشونها بسبب هذا الإجراء. نساءٌ يطرقن كل الأبواب دون جواب، وأسرٌ وجدت نفسها أمام مستقبل إداري مجهول لأطفالها، مما جعل من هذا الملف قضية إنسانية مستعجلة، لا يمكن تجاهلها ولا الصمت عنها.
في هذا السياق، برزت خلال الأشهر الأخيرة إشكاليّة مرتبطة بإصدار البطاقة الوطنية للقاصرين من أبناء الجالية المغربية بالخارج، بعد تفعيل إجراءات جديدة تشترط؛ وفق ما تنص عليه المقتضيات القانونية؛ موافقة “النائب الشرعي”، وخاصة الأب باعتباره الأصل.
ورغم أنّ هذا المبدأ يستند إلى نصوص قانونيّة واضحة من بينها المادة الثانية من الظهير الشريف رقم 1.20.80 بتنفيذ القانون 20.04، المتعلق بالبطاقة الوطنية البيومتريّة؛ فإنّ تطبيقه العملي في سياق الهجرة كشف عن صعوبات تعيشها مئات الأمهات في بلدان الإقامة، خصوصًا المطلقات الحاضنات للأبناء، حين يكون الأب غائبًا أو في وضعيّة قانونيّة غير مستقرة أو متعذر التواصل معه.
هذه الوضعيّة لا تعبّر عن تقصير مؤسساتي، بل تعكس تعارضًا بين منطق القانون ومنطق الواقع في فضاءات تتسم بتعدد الأنظمة الأسرية والقانونيّة. فالقنصليات المغربية، باعتبارها امتدادًا للمؤسسات الوطنية، تجد نفسها أمام ملفات مكتملة شكليًا لكنها تظل معلّقة لغياب توقيع الأب النّائب الشرعي، مما يترتب عنه تأخير في إصدار وثائق أساسيّة يحتاجها الطفل في التعليم والصحة والإقامة.
وفي هذا الإطار، تبرز ضرورة ملحّة لحماية حقوق القاصرين المغاربة في بلدان الإقامة؛ فهؤلاء الصغار يجدون أنفسهم أحيانًا مهدّدين بحرمانهم من الإقامة القانونية أو مواجهة صعوبات في تجديدها، فقط لأنهم لا يستطيعون الحصول على جواز السفر أو البطاقة الوطنية في الوقت المناسب. وهو وضع لا يمسّ الإجراءات الإدارية فحسب، بل ينعكس مباشرة على حقّ الطفل في التعليم والصحة والاستقرار الأسري. إنّ الطفل، حيثما وُجد، يجب أن يُعامل باعتباره أولوية قانونية وأخلاقية، ولا يجوز أن تُعطّل مسارات حياته بسبب تعذر توقيع أو غياب وثيقة، خاصة في دول تعتمد بشكل صارم على الأوراق الثبوتية لضمان الإقامة والحقوق الأساسية.
ورغم المجهودات الكبيرة المبذولة في السنوات الأخيرة لتقريب الإدارة من مغاربة العالم وتحديث الخدمات القنصلية، إلا أنّ هذه الإشكالية أعادت إلى الواجهة سؤالًا مهمًّا: كيف يمكن التوفيق بين احترام القانون من جهة، وضمان مصلحة الطفل وتسريع الخدمات من جهة أخرى؟
الإحساس العام داخل الجالية لا يتجه نحو لوم المؤسسات، بل نحو الدعوة الهادئة إلى التفكير في آليات تُمكّن من تطبيق القانون مع مراعاة خصوصيّات وضعيّة الهجرة، خاصة وأن وزارة الداخليّة سبق أن تبنّت مقاربة مرنة فيما يتعلق بجوازات السفر، مما يعكس قابليّة المنظومة للتطوير المستمر.
وهنا نذكر المسؤولين بما جاء في خطاب جلالة الملك محمد السادس حفظه الله بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء المظفرة حيث قال:
« من أهم التحديات التي يتعين على هذه المؤسسات رفعها، تبسيط ورقمنة المساطر الإدارية والقضائية التي تهم أبناءنا بالخارج.»
وانطلاقًا من هذا المعطى، يمكن التفكير في مجموعة من الحلول العملية التي لا تتعارض مع النصوص القانونية، ومن بينها:
تحديد وضعية “تعذر الأب” بآليات واضحة تتيح للأم القيام مقامه في إصدار البطاقة عندما يكون الغياب ثابتًا، بما ينسجم مع روح القانون دون المساس بمرجعيته.
إحداث مساطر مبسطة خاصة بالجالية المغربية بالخارج، تأخذ بعين الاعتبار اختلاف القوانين الأوروبية وتباين الوضعيات الأسرية الواقعية.
تعزيز التنسيق بين وزارتي الداخليّة والشؤون الخارجيّة والمديرية العامة للأمن الوطني، لضمان انسجام التعليمات بين الإدارة المركزية والقنصليات.
اعتماد معيار المصلحة الفضلى للطفل، باعتباره معيارًا أساسيًا في كل الدول، وضمانًا لعدم تعطيل حقوقه الأساسية بسبب تعقيدات الشكل.
إنّ هذا الملف، رغم حساسيته، يظل قابلاً للتسوية في إطار مؤسساتي هادئ ومسؤول، دون الحاجة إلى خطاب تصعيدي أو تحميل أي جهة ما لا تتحمله.
فالغرض ليس النقد، بل الإسهام في النقاش العمومي وتقديم رؤية متوازنة تُساعد على تحسين الخدمات القنصلية وتخفيف الضغط عن الجالية التي تشكل رصيدًا وطنيًا استراتيجيًا لا غنى عنه.
وفي الختام، يظل الأمل معقودًا على مواصلة مسار الإصلاح الإداري بما ينسجم مع التوجيهات الملكية، التي تجعل كرامة المواطن—داخل الوطن وخارجه—في صلب السياسات العمومية. فمغاربة العالم يستحقون إدارة مرنة قدر الإمكان، وقانونًا يراعي واقعهم، ومساطر تُعلي مصلحة الطفل والأسرة، بما يحفظ هيبة الدولة ويصون حقوق مواطنيها ضمن الحدود القانونية الممكنة.
ونأمل أن تستجيب الجهات المعنية بسرعة لمعاناة هذه الأسر، عبر تبسيط المساطر وتنسيق الجهود بين وزارة الداخلية، والمديرية العامة للأمن الوطني، ووزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، لتفعيل حلول عملية تحمي حقوق الأطفال وتعيد الثقة في مؤسسات الوطن لدى جاليتنا المقيمة بالخارج.
اللهم احفظ أطفالنا وأبناء الجالية في كل مكان،وارزقهم الأمان والحق في الحياة الكريمة، ووفق المسؤولين لحماية حقوقهم وصون مستقبلهم.

تعليقات