هكذا تعيد واقعة “الموسخ لي ولدك” طرح سؤال الأخلاق في العمل السياسي بالمغرب

لم تكن مجرد مناوشة كلامية عابرة تلك التي وقعت في مجلس النواب أول أمس، بل لحظة كاشفة تعرّي عمق الأزمة الأخلاقية التي تعيشها بعض نخبنا السياسية. حين يوجّه وزير العدل، حامل اسم العدالة وميزانها، إهانة صريحة لزميله البرلماني عبد الصمد حيكر بقوله «الموسخ لي ولدك»، فإن الأمر يتجاوز خلافاً سياسياً عادياً ليصبح اعتداءً على جوهر الكرامة الإنسانية وهيبة المؤسسة التشريعية. إنها اللحظة التي يسجل فيها التاريخ الرسمي دخول لغة «زنقوية» إلى قلب مؤسسة يُفترض أنها حامية للحقوق.
الدفاع عن حيكر هنا ليس دفاعاً عن شخصه أو حزبه، بل عن البرلمان كمؤسسة للنقاش والتشريع. فحيكر، كعضو في السلطة التشريعية، يمثل شريحة من المواطنين، والإساءة إليه إساءة لمن انتخبوه. وقد اختار الرد بهدوء قبل أن يظهر في شريط مسجّل على موقع «بديل» في حوار مع حميد المهدوي وهو يغالب دموعه. قد لا يكون حيكر ملتزماً دائماً بأدبيات العمل البرلماني، لكنه في تلك اللحظة قدّم درساً في السياسة الراقية أمام وزير كان من المفترض أن يكون قدوة في احترام القانون واللغة.
ما صدر عن الوزير عبد اللطيف وهبي ليس حدثاً معزولاً لمن يتابع مساره السياسي، بل حلقة ضمن مواقف تكشف عن نمط سلوكي يقوم على الاستعلاء وغياب احترام الآخر. هذا السلوك يعكس فهماً مشوهاً للسلطة باعتبارها أداة للهيمنة، بدل كونها مسؤولية لخدمة المواطنين. إنه خطاب ينفر منه المجتمع منذ تولي هذه الحكومة مهامها.
التاريخ السياسي المغربي القريب، بما يحمله من تقلبات، يقدم دروساً تؤكد أن السلطة المبنية على الغطرسة والاستفزاز سلطة هشة. القوة الحقيقية لا تكمن في تجاوز الحدود، بل في احترامها. والمغاربة يحتفظون في ذاكرتهم بصور شخصيات بلغت ذروة النفوذ بأساليب متسلطة، قبل أن تجد نفسها مطرودة من الفضاء السياسي ومن حظوة «المخزن» نفسه.
أبرز هذه الصور شخصية وزير الداخلية الدكتور إدريس البصري. لسنوات طويلة كان «الرجل القوي» في الدولة، يفرض هيبته المطلقة ويتعامل مع الخصوم بمنطق السيطرة لا الحوار. وفي إحدى الوقائع، قال لرجل الأعمال عبد الرحيم الحجوجي بعدما أخبره الأخير: «أنا ما كنخافش من المخزن»، فرد البصري غاضباً ومشيراً إلى نفسه: «عليك أن تخاف من المخزن». ومع أول تحوّل سياسي عقب وفاة الملك الحسن الثاني سنة 1999، وجد نفسه خارج المشهد، يعيش عزلة تامة في باريس. وفي حواره مع قناة الجزيرة قال: «أجد نفسي مشرداً في باريس، معنديش باش نلاقي الشهر… يا سلام، أعيش التشرد وأقوله وأؤكده». كان ذلك درساً مدوياً في أن السلطة التي لا ترتكز على شرعية مؤسساتية ليست سوى قشرة سرعان ما تتهاوى.
وفي سياق أكثر حداثة، وليس ببعيد عن البرلماني حيكر، يمكن استحضار تجربة عبد الإله بن كيران كرئيس للحكومة. فبعد وصوله إلى قمة السلطة التنفيذية، اشتهر بخطابه الشعبوي الحاد وبأسلوب رأى فيه البعض جرأة ورآه آخرون استفزازاً على الخصوم وحتى على بعض شركائه. هذا الأسلوب، الذي منحه شعبية أولية، كان أحد أسباب عزلته السياسية وعجزه عن تشكيل حكومته الثانية، لينتهي نفوذه متراجعاً داخل حزبه وخارجه. وهكذا قدّم مثالاً على أن الزعامة الفردانية غير المؤسّسة مصيرها التآكل.
هذان المثالان، البصري وبنكيران، رغم اختلاف السياق، يقدمان حقيقة راسخة في السياسة المغربية: السلطة التي تُمارس بمنطق التفوق والاحتقار مآلها الزوال مهما طال أمدها.
إن استخدام لغة الشارع من طرف وزير العدل يمثل خطراً على النسيج الاجتماعي. فإذا كان وصيّ العدالة أول من يخرق قواعد الاحترام، فماذا يتبقى للمواطنين؟ إنه سلوك يعمّم ثقافة لا تليق بمغرب «التمغرابيت» الذي يطمح إلى بناء هوية قائمة على الكرامة والاحترام.
الرهان اليوم ليس البحث عن «منتصر» في واقعة محدودة، بل تحديد طبيعة السياسة التي نريدها لهذا البلد: هل نريد نموذجاً قائماً على الحوار والاختلاف الراقي، أم نموذجاً تُسيره انفعالات فردانية تهدف إلى إقصاء الخصم بدل مناظرته؟ ما فعله حيكر وما صدر عن وهبي يعكسان صراعاً بين رؤيتين لمغربين مختلفين.
لا يمكن بناء مغرب قوي وديمقراطي بلغة الإهانة والاستعلاء. لقد قدّم البرلماني حيكر نموذجاً للسياسي المدرك لحدود دوره في المعارضة، فيما قدّم الوزير وهبي نموذجاً لسلطة تفقد توازنها في أول امتحان. الدفاع عن حيكر اليوم هو دفاع عن السياسة كقيمة، وعن البرلمان كمؤسسة، وعن كل مواطن يؤمن بأن الكرامة ليست ترفاً، بل جوهر المواطنة التي لا ينبغي المساس بها. والتاريخ لا يرحم من يعتقد أن الكراسي تُحفر في الصخر.

تعليقات