آخر الأخبار

ليس كل ما يُنسب إلى السنّة هو سنّة: قراءة أكاديمية في وهم “المعجزات الصحية” للزبيب بين المعرفة العلمية والخطاب الشعبوي

عبد الله مشنون
كاتب صحفي ومحلل سياسي مقيم في إيطاليا .

تشهد منصّات التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة انفجارًا في تداول مضامين تُنسب إلى السنّة النبوية وإلى الطب، في صيغة أقرب إلى “وصفات صحيّة معصومة” أو “معجزات غذائية” تُسند إلى النبي ﷺ دون تحقق أو تمحيص. ومن بين أكثر تلك الأمثلة انتشارًا الادعاءات المتعلقة بـ“فوائد الزبيب”، والتي تقدم هذا الغذاء الطبيعي في صورة دواء شامل يعالج طيفًا واسعًا من الأمراض المستعصية، من السرطان إلى أمراض الكبد والكلى والرئة والدماغ، بل تُنسَب بعضها — بلا سند — إلى توجيهات نبوية قطعية.

هذه الظاهرة ليست مجرد مبالغات صحفية، بل هي تمظهر خطير لـ التلاعب بالمقدّس، ولممارسات تضليلية تُستثمر فيها الثقة الدينية والعاطفة الشعبية لإنتاج خطاب صحيّ غير دقيق، يفتقر إلى أدنى مقومات المنهج العلمي والحديثي.

أولًا: حين يتحوّل الدين إلى مدخل لـ”التسويق الصحي”

من الناحية الحديثية، لا توجد رواية صحيحة تثبت أن النبي ﷺ كان يوصي بالزبيب تحديدًا باعتباره علاجًا شاملًا أو غذاءً معيّنًا ذي فضائل علاجية مخصوصة. ومهما حاولت بعض المنشورات أن تمنح الادعاء سلطةً دينية عبر جملة “كان الرسول ﷺ يأكل الزبيب دائمًا”، فإن هذه الجملة لا أصل لها في كتب السنّة الستة ولا في المراجع المعتمدة، وهي نموذج صارخ لكيفية تمرير نصوص ملفّقة عبر عبارات مطلقة تخدع القارئ غير المختص.

وهنا تبرز حقيقة مركزية:

ليس كل ما يُكتب باسم السنّة هو سنّة، ولا كل ما يُنسب إلى النبي ﷺ يمتلك شرعية النقل أو قوة الدليل.

وقد أصبح من السهل اليوم تحويل أي وصفة غذائية أو عشبية إلى “طب نبوي”، دون مراعاة لأصول التحقيق العلمي أو النقد السندي. وهذا الخلط لا يضرّ بالمعرفة فقط، بل يسيء إلى السنّة نفسها، حين تُستعمل كغطاء معرفي لإضفاء الشرعية على ادعاءات غير موثقة.

ثانيًا: ماذا يقول الطب الحديث عن الزبيب؟

على المستوى الطبي، يشكّل الزبيب — بصفته عنبًا مجففًا — غذاءً غنيًا بالعناصر المفيدة:

الألياف الغذائية: تساهم في تحسين الهضم وتقليل الإمساك.

مضادات الأكسدة (خصوصًا البوليفينولات): لها دور نسبي في حماية الخلايا من الإجهاد التأكسدي.

المعادن (البوتاسيوم، الحديد، النحاس): عناصر أساسية لوظائف الجسم.

السكريات الطبيعية: مصدر للطاقة السريعة، خصوصًا لدى الرياضيين.

وتشير دراسات منشورة في دوريات معتمدة (مثل Journal of Nutrition و Nutrients) إلى أن تناول الزبيب باعتدال قد يساعد في:

تحسين بعض مؤشرات صحة القلب.

تخفيف جزء من الالتهابات منخفضة الدرجة.

تعزيز صحة الفم عبر الحدّ النسبي من نموّ بعض البكتيريات.

لكن، وهذا مهمّ للغاية، لا توجد أي دراسة علمية جادة تُثبت أنه يعالج أمراضًا معقدة مثل السرطان، تليّف الكبد، الفشل الكلوي، النقرس، الملاريا، أو التهابات الرئة الحادة.
هذه الادعاءات تدخل ضمن ما يسمى في الأدبيات الطبية بـ “الطب الزائف” (Pseudo-medicine)؛ أي الخطاب الصحي الذي يقدّم وعودًا علاجية بلا أساس علمي.

ثالثًا: لماذا تُنتج المجتمعات مثل هذه الروايات؟ 

تنتشر هذه الادعاءات في بيئة يغيب فيها التمييز بين ثلاثة مستويات رئيسية:

الغذاء الطبيعي

العلاج الطبي

السنّة النبوية كمرجع أخلاقي وروحي

وعندما يُخلط بين هذه المستويات، تتحوّل المعلومة إلى كيان هجين يجمع بين سلطة الدين، وسحر الطبيعة، وجاذبية “المعجزة”، فيُقبل عليها الناس دون تردّد.
الناس لا يبحثون عن الحقيقة، بقدر ما يبحثون عن اليقين المُطمئن، حتى لو كان مبنيًا على وهم.

ولعلّ من أهم ما يجب التأكيد عليه هنا، أنّ كثيرًا مما يُتداول تحت شعار “الطب النبوي” أو “ما أوصى به النبي ﷺ” لا يمتّ إلى السنّة بصلة. فليس كل ما يُكتب باسم السنّة هو سنّة، ولا كل ما يُنسب إلى الرسول ﷺ له أصل أو سند معتبر. واحترام السنّة لا يتحقّق بترديد ما يُنقل عنها، بل بالقدرة على التمييز بين الصحيح والمنحول، وبين النص الثابت والرواية الشائعة.

والسنّة — في أصلها — منهج هداية لا منصة لإسقاط كل وصفة غذائية عليها. ومن الضروري إدراك أن الخلط بين الغذاء الطبيعي والطب النبوي، أو بين المعطيات العلمية والوصفات الشعبية، هو خلطٌ بين الحقيقة والوهم، يُسهم في صناعة وعي زائف يجب التصدي له.

رابعا: حين يصبح التضليل “إعجابًا” و”مشاهدات”

إن نشر معلومات صحية مضلّلة، أو نسبها إلى الدين دون تحقق، لا يمكن وصفه إلا بأنه شكل من أشكال الغش. وقد أكدت المنظمات الصحية (مثل منظمة الصحة العالمية) أن خرافات “العلاج الغذائي الشامل” تمثل خطرًا مباشرًا على:

المرضى الذين يُهملون العلاج الطبي الفعلي.

الصحة العامة.

صدقية المعرفة العلمية.

مكانة الدين في الوعي العام.

إن حماية المجتمع من التضليل الصحي ليست مهمة الأطباء وحدهم، بل مسؤولية المثقفين وصانعي الخطاب الإعلامي، كي لا تتحوّل المنابر العامة إلى مصادر تروّج للوهم باسم الدين أو العلم.

الزبيب غذاء مفيد، لكنّه ليس “دواءً معجزًا”.
والسنّة مصدر هداية، وليست مساحة مفتوحة لصق الادعاءات بها.
والمعرفة العلمية لا تُبنى بالعاطفة، بل بالبحث والبرهان.

وفي زمن يسهل فيه التلاعب بالمعلومة، يصبح التحقق مسؤولية أخلاقية، وواجبًا معرفيًا لا يقلّ قيمة عن إنتاج المعرفة نفسها.

الخلط بين العلم والخرافة، والدين والدعاية، والصحة والوصفات السحرية، فهو إيذاء للعقول والقلوب في آن.

إن المعرفة مسؤولية… والصدق قيمة… والحقيقة أمانة.

اللهم أخرجنا من ظلمات الغفلة والظنّ والادعاء، إلى أنوار اليقين والعلم والبيان.

المقال التالي