تحوُّل الموقف الجزائري إزاء القضية الفلسطينية: مقاربة تحليلية نقديّة في سياق الانزياح الجيوسياسي والاستقطابات الدوليّة

عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم في إيطاليا .
- الانزياح عن الموروث الدبلوماسي وسؤال التحوُّل الجيوسياسي
لطالما مثَّلت الجزائر نموذجًا للدولة المنخرطة في ديناميات التحرر العالمي، حيث تشكّل القضية الفلسطينية أحد أهم مرتكزات خطابها السياسي وهُويتها الخارجية.
غير أن التصويت الجزائري لصالح القرار الأممي 2803 في مجلس الأمن يطرح إشكالية جوهرية تتعلق بتحوُّل البنى السياسية الداخلية وأثرها على التوجهات الاستراتيجية للدولة. هل يمكن اعتبار هذا التصويت مؤشرًا على تحوّل جيوسياسي عميق؟ وإلى أي مدى تُعبِّر هذه الخطوة عن أزمة هُوِيَّة في علاقة النخبة الحاكمة بالإرث التاريخي للدولة؟- السياق التاريخي والانزياح الدبلوماسي: من الخطاب التحرري إلى التوازنات الدولية
لقد شكّلت الجزائر، منذ استقلالها، حاضنةً للقضايا التحررية، وامتلكت رصيدًا رمزيًا كبيرًا في المخيال الجمعي العربي.
لكن الانزياح الذي مثّله التصويت على القرار 2803، في لحظة حرجة من تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، يضعنا أمام تساؤلات نقدية عابرة للتخصصات:
هل يمكن لدولة أن تحافظ على استمرارية هويتها السياسية في ظل تحوُّلات النظام الدولي وتغيُّر موازين القوى؟ وأين يقع الفصل بين البراغماتية السياسية كضرورة، والانزياح عن الثوابت كانزياح عن الماهية؟- البنية السياسية الداخلية وتأثيرها على القرار الخارجي: إشكالية الفصل بين السلطة والمجتمع
تُظهر التحليلات السوسيولوجية للسلطة أن طبيعة النُظُم المغلقة تؤدي غالبًا إلى انفصال القرار السياسي عن الإرادة المجتمعية. وهذا يدفع إلى التساؤل:
هل يمكن لنخبة عسكرية- سياسية أن تمثل ضمير شعب وتاريخه إذا كانت منفصمة عن نبضه اليومي ومعاناته؟ وكيف يمكن تفسير تناقض الخطاب الرسمي الجزائري، الذي يرفع شعارات التحرر، مع ممارسات داخلية تقوم على التضييق والحجب؟
في هذا السياق، يبدو التصويت على القرار 2803 تعبيرًا عن تناقض مركب: فالنظام الذي يدّعي التمسك بثوابت الأمة يقدّم في المحافل الدولية خدمات جيوسياسية لقوى كبرى، ليس ذلك فحسب، بل إن هذا الانزياح يحدث في لحظة تاريخية بالغة الحساسية، ما يضفي على الموقف طابعًا تراجعيًا يستدعي القراءة النقدية.- الأبعاد الجيوسياسية والاستراتيجية: مقارنة السياقات والإمكانيات
إذا قارنا الموقف الجزائري بمواقف دول ذات ثقل مماثل، كالامتناع الروسي والصيني، نجد أن الجزائر قدّمت شرعيةً غير متوقعة لمشروع سياسي يكرس الوضع القائم. وهذا يفتح الباب لتساؤلات استراتيجية:
هل كان هذا القرار محاولة لتحقيق مكاسب دبلوماسية في سياق توازنات إقليمية معقدة؟ وإلى أي مدى يمكن تفسير هذا الموقف في إطار الصراع الخفي بين النخبة الجزائرية وجيرانها؟ وهل يشكّل هذا الانزياح مؤشرًا على تحوّل في الخارطة الجيوسياسية للمنطقة، حيث تتراجع “القضايا الكبرى” لصالح حسابات الضرورة والبقاء؟- الدلالات الرمزية والهوياتية: الانزياح عن الموروث والانخراط في المنظومة الدولية
إن الانزياح عن الموقف التاريخي لا يقتصر على الجانب السياسي فحسب، بل يمتد إلى البُعد الهوياتي. فالقضية الفلسطينية، في المخيال الجمعي الجزائري، ليست قضية عابرة، بل هي جزء من نسيج الهوية الوطنية.
وهذا يدفع إلى التساؤل: ماذا تبقى من “جزائر التحرر” عندما تتحول القضية الفلسطينية إلى ورقة في صراع النخب؟ وكيف يمكن قراءة هذا الانزياح في ضوء نظريات الانزياح الهوياتي في العلاقات الدولية؟- الاستشراف ومسارات التغيير: أسئلة ما بعد الانزياح
لا يمكن فهم هذا الانزياح بمعزل عن السياق الداخلي، حيث تتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في ظل نظام سياسي مغلق.
وهذا يفتح الباب لتساؤلات استشرافية: هل يمكن أن يُحدث هذا الانزياح قطيعة نهائية بين السلطة والجماهير؟ وما تأثير ذلك على المستقبل السياسي للجزائر؟ وهل يمكن أن تتحول هذه اللحظة إلى منعطف تاريخي يُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين السياسة والأخلاق؟- خاتمة: نحو مقاربة تفكيكية للانزياح الجيوسياسي
إن الانزياح الجزائري في التصويت على القرار 2803 ليس مجرد حادثة عابرة، بل هو مؤشر على تحوُّلات بنيوية في النظام السياسي الجزائري، تستدعي مقاربة تحليلية شاملة تجمع بين السوسيولوجيا السياسية والتحليل الجيوسياسي. إنه نموذج لانزياح النخب عن مرجعياتها التاريخية، وانخراطها في لعبة دولية معقدة، قد تدفع ثمنها الأجيال القادمة.
يبقى السؤال الأعمق: هل يمكن لدولة أن تحافظ على هويتها وهي تتصادم مع إرثها التحرري؟ وهل يمكن للشعوب أن تقبل بأن تتحول قضاياها المصيرية إلى مجرد أدوات في صراع النخب؟ هذه الأسئلة لا تخص الجزائر وحدها، بل تمسّ كل دولة تمر بمرحلة انتقالية من خطاب التحرر إلى واقع التعقيد الجيوسياسي.

تعليقات