من محطة التحلية إلى صفقات الأدوية.. تساؤلات دستورية على “حكومة أخنوش”

لم تعد فضيحة “صفقة الأدوية” مجرد خبر عابر في المشهد السياسي المغربي، بل تحولت إلى كاشف صادق لعمق الأزمة التي تعصف بمنظومة الحكامة. فبعد عامين تقريبًا على الجدل حول محطة تحلية مياه الدار البيضاء، تعود حكومة عزيز أخنوش لتواجه الاتهامات نفسها، ولكن هذه المرة من بوابة قطاع الصحة، وهو ما يطرح سؤالًا جوهريًا: هل نحن أمام تجاوزات فردية، أم أمام نمط منهجي يعكس ثقافة سياسية وممارسات حكومية تحتاج إلى مراجعة جذرية؟ إن القضية، كما تكشف تفاصيلها، تتجاوز مسألة قانونية صفقة واحدة، لتصبح امتحانًا لمصداقية الدولة وقدرتها على الفصل بين المصلحة العامة والمصالح الخاصة.
تشريح الفضيحة.. من الشركة إلى الوزير: خيوط متشابكة ومترابطة
بدأت القضية عندما كشف النائب البرلماني عبد الله بوانو، من قبة البرلمان، عن حصول شركة “فارما بروم” على صفقة لتوريد دواء “كلوريد البوتاسيوم”. الشركة ليست مجرد كيان اقتصادي، بل مرتبطة بشكل مباشر بالوزير سعد برادة، عضو الحكومة نفسها. ورغم تنحيه عن رئاسة الشركة، فإن الخيوط تظل متشابكة: إدارة الشركة انتقلت إلى شقيقه، وزوجته وأبناؤه لا يزالون مساهمين فيها، مما يجعلها في جوهرها “شركة عائلية” للوزير.
الأكثر دلالة هو القفزة الكبيرة في حجم الصفقات التي حصلت عليها الشركة مع الحكومة منذ دخول برادة إلى الحكومة، من حوالي 8 ملايين درهم في عام 2024 إلى أكثر من 80 مليون درهم (32 مع الوزارة و50 مع المستشفيات الجامعية) في عام 2025. هذه الأرقام لا تترك مجالًا للصدفة، وتؤكد وجود نمط من الاستفادة المباشرة من الموقع الحكومي، مما يجعل الدفاعات الرسمية تبدو هشة ومتهالكة.
صدام السرديات.. الشرعية القانونية في مواجهة المشروعية الأخلاقية
واجه وزير الصحة، أمين التهراوي، الهجوم بمنطق دفاعي مألوف: “الصفقات تبرم مع الشركات لا مع الأشخاص”، و”كل الإجراءات تمت في إطار القانون”. هذا الخطاب، كما يصفه الباحث أحمد السرغيني، هو تعبير عن “ثقافة سياسية قديمة” تتعامل مع تضارب المصالح كقضية تقنية بحتة. لكن هذا المنطق يفشل في الإجابة على السؤال الجوهري الذي يطرحه الرأي العام: هل يجوز أخلاقيًا وسياسيًا أن تفوز شركة تابعة لوزير بصفقة أطلقتها حكومة هو جزء منها؟
الإشكال ليس في خرق “المساطر” بقدر ما هو في خرق “قاعدة اللياقة الديمقراطية”. فالحكومة ليست مطالبة فقط بالامتثال للقانون، بل بتجنب كل وضع يثير الشبهة ويضعف الثقة في حياد قراراتها. إن الدفاع بالقانون في وجه اتهام أخلاقي هو بمثابة “تدوير الزاوية” كما وصفته مصادر “نيشان”، فهو يحاول تحويل نقاش سياسي وعميق إلى جدال تقني ضيق.
الثغرات البنيوية.. آليات التحايل والفراغ القانوني
ما يزيد من خطورة الوضع هو الكشف عن آليات قد تُستخدم لفتح الباب أمام مثل هذه الصفقات. كشف النائب بوانو أن نصف طلبات العروض التي أطلقتها وزارة الصحة في عام 2025 كانت “غير مجدية” بسبب شروط مجحفة، مما يخلق ذريعة تلقائية للجوء إلى “التراخيص الاستثنائية”. هذه الآلية، المفترض أن تكون استثناءً، تتحول إلى قاعدة تسمح لشركات معينة، على دراية مسبقة بالخصاص، بالاستفادة، مما يفتح الباب على مصراعيه للتلاعب والفساد المنظم.
هذا الوضع يغذيه فراغ قانوني خطير: غياب قانون يجرم تضارب المصالح رغم التنصيص الدستوري عليه. كما نبهت هيئة النزاهة، فإن هذا الغياب يسمح بـ”الاختفاء” والتحايل على القانون، عبر تفويت الشركات إلى الأقارب، مما يحافظ على شكل قانوني زائف بينما يتم خرق روح القانون وجوهره. إن التأطير القانوني الحالي عاجز عن مواكبة تمظهرات هذا السلوك الانحرافي.
البعد السياسي والثقافي.. غياب الحساسية وتآكل الثقة
أخطر ما في الأزمة هو رد فعل الحكومة وتعاملها مع النقد. إن اعتبار كل انتقاد “مزايدات” سياسية بدلاً من اعتباره “تنبيهاً مشروعاً” يدل على “غياب الحساسية السياسية” اللازمة لإدارة الشأن العام. الحكومة لم تستوعب الدرس من قضية محطة التحلية، وتظهر اليوم بنفس المنطق الدفاعي الذي يعزلها عن هموم المواطن ومخاوفه.
في زمن يتعاظم فيه الوعي العمومي، لم يعد المواطن يقبل بالإجابات التقنية. كما يقول الباحث السرغيني، “المواطن لا يسأل هل تم احترام المسطرة، بل يسأل لماذا فازت شركة وزير في الحكومة بمال عام تديره حكومة هذا الوزير؟”. هذا التحول في السؤال يعكس أزمة ثقة عميقة. فالثقة في المؤسسات لا تبنى فقط بالنصوص القانونية، بل بممارسات تخلق “مسافة صحية” بين أصحاب القرار وأي منفعة اقتصادية محتملة.
ما وراء الصفقة الواحدة.. امتحان الثقة ومستقبل الحكامة في مهب الريح؟
لم تعد قضية صفقة الأدوية مجرد جدل بين وزيرين أو بين حكومة ومعارضة. لقد أصبحت رمزًا لصراع بين نمطين من الحكم: نمط قديم يرى في تضارب المصالح إشكالًا تقنيًا يمكن حلّه بالحجج القانونية، ونمط ديمقراطي حديث يراه جوهراً لجودة الديمقراطية ونزاهة الحكم.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة اليوم هو: هل تمتلك “حكومة أخنوش” الشجاعة السياسية لتأسيس قاعدة جديدة وواضحة تُبعد المسؤولين عن أي علاقة تعاقدية مع الدولة، وتسن قوانين صارمة لتجريم تضارب المصالح؟ أم أن المشهد سيظل يدور في نفس الحلقة المفرغة التي تربط السلطة بالمصلحة، مما يعمّق الأزمة ويزيد من تآكل الثقة في مؤسسات الدولة؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل الحكومة، بل اتجاه مسار الإصلاح والحكامة في المغرب للأعوام القادمة.

تعليقات