آخر الأخبار

بين ظلام الشك ونور الفهم: حين يتحول سوء الظن إلى ثقافة مدمّرة

عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم في إيطاليا.

في مجتمعاتنا اليوم، لم يعد سوء الظن مجرد خطأ عابر أو انفعال مؤقت، بل صار عند بعض الناس منهج حياة، وعدسة ينظرون من خلالها إلى الآخرين، حتى كأنهم يعيشون في عالم مصبوغ بالريبة والاتهام. يكفي أن يختلف أحدهم معك في رأي، أو يقدم قراءة مختلفة لمسألة فقهية أو اجتماعية، حتى يصبح هدفاً لوابل من التهم الجاهزة: تمييع للدين، ضعف في الالتزام، انحراف عن السنة… إلى آخر تلك القائمة الطويلة التي تُطلق بلا ورع ولا معرفة.

وأسوأ ما في هذه الظاهرة أن أصحابها يظنون أنفسهم حماة للدين، بينما هم في الحقيقة يسيئون إليه من حيث لا يشعرون، لأنهم يتعاملون مع الناس بمنظار معتم، لا يرى الفضيلة ولا يبحث عن العذر، بل يتفنن في التقليل والاتهام.

من يتبنى سوء الظن غالباً ما يفعل ذلك بدافع الجهل أو الغرور أو الاثنين معاً. فهو لا يعرف عمق الشريعة ولا سَعة الإسلام، ومع ذلك يتجرأ على الحكم على نيات الناس وأعمالهم. ومن عجائب بعضهم أنهم يستخرجون من تصرف بسيط “جرماً عظيماً”، فيحوّلون الهفوة إلى معصية، والمعصية إلى بدعة، والبدعة إلى كفر!

هذا النوع من التفكير يعكس أزمة في العقل قبل أن يكون خطأً في الدين. فعالم النفس والمتخصص والاجتماعي والمتدين الواعي جميعهم يعلمون أن الإنسان مركب من نقاط قوة وضعف، وأن نظرته القاصرة لا تخوّله أن يحاكم الناس بعلمه المحدود أو مزاجه المتوتر.

لقد تحولت مواقع التواصل اليوم إلى مرآة مكبرة لهذه الظاهرة؛ فبعض الناس يقرأ جملة فيحكم على قائلها، يرى صورة فيدين صاحبها، يسمع رأياً فينسب النيات لصاحبه، وكأن معرفته الجزئية تكفيه ليصدر حكمًا نهائيًا.

والأزمة الأكبر أن بعض هؤلاء لا يكتفي بالحكم، بل يجرّ المجتمع إلى التحريض على الإنسان الآخر، ظناً منه أنه “ينصر الحق” وهو يدمر القيم الأساسية التي جاء الإسلام ليبنيها: الستر، الرحمة، والتماس الأعذار.

 الإسلام دين الرحمة أولاً… والفهم قبل الحكم على الناس

لا يمكن لأي مجتمع أن يستقيم إذا تحول سوء الظن إلى مبدأ، والاتهام إلى عادة. فالتاريخ الإسلامي نفسه يثبت أن أعظم العلماء كانوا أكثر الناس تواضعاً، وأشدهم حرصاً على تجنب الطعن في الآخرين. كانوا يرددون: “الرجل أخي، أبحث له عن سبعين عذراً”، بينما بعض الناس اليوم يبحث عن سبعين تهمة قبل أن يمنح عذراً واحداً!

وقد حذر القرآن من الظنون المرضية لأنها تهدم العلاقات وتشعل الفتن:
“اجتنبوا كثيراً من الظن، إن بعض الظن إثم.”
فالآية لم تقل “الظن كله إثم”، بل قالت “بعض الظن”، أي أن المؤمن مطالب بالتمييز، لا بالحكم العشوائي.

مشكلة أساسية في واقعنا أن البعض يخلط بين الغيرة على الدين والتسرع في الحكم على الناس. فلو أفتى عالم بتيسير أو تحدث داعية بلغة معاصرة، اتهم فوراً بأنه “متساهل” أو “مفتون بالحضارة الغربية”. هذه النظرة الضيقة تعكس نقصاً في الوعي بالدور الحقيقي للعلماء: التسهيل، الفهم، الموازنة، والقدرة على مخاطبة العصر.

ولم ينجُ من سهام هؤلاء لا حاضرٌ ولا ماضٍ؛ فحتى رموز الأمة وشخصياتها الوازنة لم تَسلم من اتهاماتهم المتعجلة؛ فما من عالم أو مفكر أو داعية إلا وناله شيء من طعن المتسرعين.

الأصل في المجتمع السليم أن يحسن الظن بالناس، وأن يزن الأقوال والأفعال بميزان العدل لا بميزان الهوى. أما حين يسود الشك وتختفي الرحمة، فحينها يتحول المجتمع إلى بيئة طاردة، ويُصاب الناس بالإحباط، وتكثر الانقسامات، ويضيع جوهر التدين نفسه، لأن الدين في جوهره ليس صراعاً ولا خصومة، بل بناء أخلاق وتهذيب نفوس.

تؤكد دراسات علم النفس الاجتماعي أن الإنسان الذي يعيش في بيئة قائمة على الشك المستمر يصبح أكثر توتراً وأقل ثقة بالآخرين، ما يؤدي إلى اضطراب العلاقات الإنسانية وتراجع جودة الحياة الاجتماعية. وتشير أبحاث جامعة “ستانفورد” إلى أن المجتمعات التي يسود فيها سوء الظن ترتفع فيها معدلات العنف اللفظي والرمزي، وتزداد فيها النزاعات بسبب تآكل الثقة الاجتماعية.

كما تبين دراسات حديثة في علم الأعصاب أن الدماغ البشري حين يعتاد على التفكير السلبي يصبح تلقائياً أكثر ميلاً لتفسير كل التصرفات على أنها عدائية أو سيئة النية، وهو ما يسمى بـ “انحياز السلبية”. هذا يعني أن الناس الذين يغذون سوء الظن يعيشون في دائرة مغلقة، كلما أساؤوا الظن ازداد لديهم الميل النفسي لرؤية العالم بمنظار أسود.

أما علم الاجتماع، فيؤكد أن ثقافة الاتهام تُنتج مجتمعات هشة، يسهل تفكيكها، لأن الرابط الأخلاقي الذي يجمع الناس ـ وهو الاحترام والستر والثقة ـ يتآكل يوماً بعد يوم. وعندما تتحول “الرقابة على الناس” إلى هواية، يختفي التعاون وتحل محله الخصومات.

إذا أردنا مجتمعاً متوازناً، فلابد أن نعود إلى القيم التي تهذب النفس وتحررها من الغرور. لا أحد معصوم، ولا أحد يملك الحقيقة كاملة. والإنسان العاقل هو الذي ينشغل بإصلاح نفسه قبل مراقبة غيره، ويتذكر أن أعظم مهلكات القلب هو الإعجاب بالنفس وازدراء الآخرين.

إن حسن الظن ليس ضعفاً… بل حكمة.
والستر ليس تنازلاً… بل خلقاً.
والرفق ليس تهاوناً… بل قوة قلب يعرف قدر الإنسان.

الله يحفظنا جميعا من شر بعض المخلوقات البشرية .

المقال التالي