آخر الأخبار

بين تعزيز الأمن ورهانات التنمية.. ميزانية الداخلية لـ2026 تحت مجهر “مغرب تايمز”

تطلُّ وزارة الداخلية على السنة المالية المقبلة بميزانية تبلغ قيمتها الإجمالية “54.86” مليار درهم، في لحظة وطنية حاسمة تتداخل فيها متطلبات الأمن الوطني مع إلحاحيات التنمية المجالية. هذه الميزانية لا تمثل مجرد أرقام مالية عادية، بل تعكس رؤية متكاملة تدرك أن الأمن الحقيقي لم يعد مقتصرًا على المواجهات الأمنية التقليدية، بل امتد ليشمل أمن المواطن المعيشي وتنمية محيطه اليومي.

في الجانب الأمني، تواصل الوزارة تطوير نموذجها الاستباقي الذكي، حيث تمكنت من تفكيك “200” خلية إرهابية منذ بداية الألفية، محققة نسبة كشف تتجاوز “91” في المائة من مجمل القضايا المسجلة خلال الأشهر “8” الأولى من السنة الجارية. هذا النجاح لم يأتِ من فراغ، بل جاء نتيجة تحول نوعي في الأدوات والمنهجيات، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا أساسياً في تحليل البيانات الأمنية، بينما أسهمت الطائرات المسيرة في توسيع نطاق الرقابة المجالية.

غير أن هذه الإنجازات الأمنية تطرح تساؤلات جدية حول مدى تناسب الاعتمادات المخصصة للأمن مع حجم الاحتياجات التنموية الملحة. فالمقاربة الأمنية المهيمنة تبدو وكأنها تأتي على حساب التنمية المتوازنة، خاصة في المناطق المهمشة التي تعاني من تدهور الخدمات الأساسية وتصاعد الاحتياجات الاجتماعية.

وفي مجال التنمية البشرية، تبرز مبادرة التنمية الوطنية من خلال “5300” مشروع تنموي موزعة على مختلف الجهات، استفاد منها آلاف الشباب عبر برامج للتكوين والإدماج المهني. إلا أن هذه الأرقام تخفي إشكاليات عميقة في التنفيذ، حيث يعاني الكثير من هذه المشاريع من ضعف المتابعة الميدانية وتأخر صرف الاعتمادات، مما يحول دون تحقيق الأثر المنشود على أرض الواقع.

ويظهر التهميش جليًا في ملف الجماعات السلالية، حيث تمت المصادقة على “214” مشروعًا فقط من أصل “536” مشروعًا مقترحًا، بتكلفة إجمالية لا تتجاوز “165” مليون درهم. هذه الأرقام المتواضعة تعكس استمرار سياسة الإقصاء لهذه الفئة، رغم الدور المحوري الذي يمكن أن تلعبه في تحقيق التنمية المجالية المستدامة.

أما على صعيد الأزمة المائية، فقد بلغ العجز “61.46” في المائة، مما دفع الوزارة إلى تخصيص “14.9” مليار درهم للبرنامج الاستعجالي للتزويد بالماء الشروب، و”20.8″ مليار درهم لمشاريع تحلية المياه. ورغم ضخامة هذه الاستثمارات، تبقى المقاربة المعتمدة مجرد مسكنات آنية تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية الشاملة التي تعالج جذور الأزمة المتمثلة في سوء التدبير وعدم ترشيد الاستهلاك.

وفي مجال الخدمات الأساسية، سجلت مصالح الوقاية المدنية أكثر من “412,000” تدخل حتى نهاية غشت “2025”، بمعدل يومي يناهز “1,710” تدخلاً. هذه الأرقام المذهلة تكشف عن غياب السياسات الوقائية الفعالة، حيث تظل التدخلات مجرد ردود أفعال على كوارث كان يمكن تفاديها. كما تواصل برامج النقل الحضري تطوير بنيتها التحتية وتحديث أسطولها، لكنها تظل عاجزة عن تلبية الاحتياجات المتزايدة للمواطن الحضري.

وفي الجانب الإداري، رغم الحديث عن إنجاز “50” مهمة تدقيق و”143″ مهمة بحث وتحري، فإن غياب آليات المتابعة والتقييم يجعل من هذه المجهودات إجراءات شكلية تفتقر إلى المصداقية. كما أن حصول المفتشية العامة للإدارة الترابية على شهادة الجودة لا يعكس بالضرورة تحسّنًا ملموسًا في جودة الخدمات المقدمة للمواطن.

تبقى هذه الميزانية في نهاية المطاف اختبارًا حقيقيًا لقدرة الدولة على تحقيق التوازن الدقيق بين متطلبات الأمن وضرورات التنمية. فالمبالغ الضخمة المخصصة للأمن تعكس تحقيق أمن حقيقي للمواطن، لكن ما دامت الخدمات الأساسية تشهد تدهورًا مستمرًا، فإن تحقيق الأمن الشامل يتطلب مراجعة جذرية لسياسات التنمية المجالية، واعتماد مقاربة تشاركية حقيقية، وربط الاعتمادات المالية بتحقيق نتائج ملموسة في تحسين مؤشرات التنمية البشرية، مما يجعل من استقرار المواطن اليومي وغده المعيشي الغاية الأساسية لكل سياسة عمومية.

المقال التالي