زهران ممداني.. انتصار الرمزية السياسية وصوت الأقليات في قلب نيويورك

عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم في ايطاليا
لم يكن فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك مجرّد تناوب ديمقراطي على السلطة المحلية، بل شكّل حدثًا فارقًا في التاريخ السياسي والاجتماعي للولايات المتحدة. أن يصل شاب مسلم، من أصول إفريقية وآسيوية، إلى قيادة واحدة من أكثر مدن العالم نفوذًا وتنوعًا، يعني أنّ التحوّلات العميقة التي تشهدها البنية الاجتماعية الأميركية باتت تفرض نفسها على المشهد السياسي بكل وضوح.
فممداني، الذي وُلد في أوغندا لأب أكاديمي وأم من أصول هندية، لم يكن نتاج صدفة انتخابية، بل ثمرة مسار طويل من النضال الفكري والاجتماعي، يجمع بين الحس الإنساني والموقف السياسي الجريء. يمثّل صعوده اليوم إلى رأس بلدية نيويورك لحظة رمزية لنجاح خطاب جديد داخل اليسار الأميركي، يُعيد تعريف العدالة الاجتماعية والتمثيل السياسي بعيدًا عن لغة الشعارات التقليدية.
منذ ظهور شخصيات مثل ألكساندريا أوكاسيو كورتيز، برزت ملامح تيار تقدّمي داخل الحزب الديمقراطي يرفض منطق المؤسساتية الكلاسيكية، ويسعى إلى إعادة السياسة إلى جذورها الإنسانية. زهران ممداني هو أحد أبرز أبناء هذا الجيل. خطابه لا يقوم على وعود اقتصادية فقط، بل على إعادة الاعتبار للكرامة، للمهاجرين، وللفئات التي ظلت لعقود خارج دوائر القرار.
لقد تمكّن ممداني من كسر الصورة النمطية للسياسي الأميركي الأبيض ذي الخلفية الثرية، مقدّمًا نموذجًا مغايرًا للقيادة المحلية: سياسي منحدر من أصول مهاجرة، يعيش نبض الشارع، ويتحدّث لغة الناس البسطاء.
إنّه تجسيد عملي لشعار “أميركا للجميع” الذي ظلّ طويلًا حبرًا على ورق.
لا يمكن فصل فوز ممداني عن طبيعة المدينة نفسها؛ فـنيويورك ليست مجرّد مدينة، بل كوكب مصغّر داخل الولايات المتحدة. فيها يلتقي الشرق بالغرب، والدين بالعلمانية، والمال بالفن. ولهذا فإنّ قيادة هذه المدينة تتجاوز البعد الإداري لتأخذ طابعًا سياسيًا عالميًا.
انتخاب أول عمدة مسلم فيها ليس حدثًا محليًا، بل رسالة حضارية مفادها أن التعددية لم تعد شعارًا بل ممارسة واقعية في بلد طالما واجه تحديات الهوية والانقسام.
فوز ممداني جاء رغم منافسة شرسة مع شخصيات سياسية مخضرمة، أبرزها الحاكم السابق آندرو كومو، لكنه نجح في تجاوز منطق “الخبرة” التقليدية لصالح منطق “القيم” والصدق السياسي. فقد قدّم نفسه على أنه صوت للعدالة الاجتماعية، لا للامتيازات الطبقية، وأن التغيير لا يكون بإدارة الأزمة فحسب، بل بإعادة التفكير في جذورها.
في خطابه الانتخابي، لم يكتف بالحديث عن الضرائب أو السكن، بل عن الكرامة الإنسانية وحق الجميع في العيش بفرص متكافئة. إنها مفردات نادرة في السياسة الأميركية، لكنها كانت المفتاح إلى قلوب الناخبين.
أن يكون ممداني مسلمًا لم يكن محور حملته، بل خلفية حضارية زادت من عمق تجربته. فهو لم يقدّم نفسه كمرشح ديني، بل كصوت للتعدد والإنسانية، مؤمن بأن الاختلاف يمكن أن يكون مصدر قوّة لا تهديد.
لقد نجح في تحويل هويته إلى جسر للتواصل لا جدار للعزلة، مؤكدًا أن المسلم في الغرب يمكن أن يكون فاعلًا في بناء المشترك الإنساني لا مجرد ضيفٍ دائم.
فوز زهران ممداني لا يقتصر على كونه إنجازًا انتخابيًا، بل يعبّر عن تحوّل ثقافي عميق داخل المجتمع الأميركي. فالمجتمعات الغربية، التي كانت تنظر إلى المهاجرين كقوة عاملة فقط، باتت تعترف بهم اليوم كقوة سياسية وثقافية قادرة على التأثير في القرار.
وهذا الحدث قد يشكّل بداية مرحلة جديدة من التوازن بين مراكز القوة التقليدية وصوت القواعد الشعبية التي تبحث عن العدالة والمساواة الحقيقية.
بينما يعيش العالم اضطرابات الهوية والانغلاق القومي، تأتي نيويورك لتقول إنّ الديمقراطية قادرة على التجدد من الداخل.
فصعود زهران ممداني هو برهان على أنّ التنوّع ليس تهديدًا، بل فرصة. وأنّ السياسة حين تتخلّى عن لغة الإقصاء وتتبنّى لغة العدالة، يمكن أن تنتج قيادة تُشبه الناس وتعبّر عنهم بصدق.
إنّ فوز ممداني لا يُقرأ فقط في سياق الانتخابات الأميركية، بل في سياق عالمي أوسع، حيث تشتد الحاجة إلى نماذج سياسية جديدة تُوازن بين القيم والواقعية، بين الجذور والانفتاح.
لقد أثبت أنّ الانتماء لا يُقاس بالأصل، بل بالقدرة على خدمة الناس، وأنّ السياسة يمكن أن تكون فعل إنسانية قبل أن تكون صراع مصالح.

تعليقات