ملحمة استرجاع الأراضي الجنوبية..السياق التاريخي والنموذج التنموي للأقاليم الجنوبية

في السادس من نوفمبر 1975، شهدت المملكة المغربية حدثًا استثنائيًا أحدث تحولًا نوعيًا في تاريخها الحديث. فقد انطلقت “المسيرة الخضراء” بقيادة الملك الحسن الثاني، لتكون نقطة فارقة في مسار استكمال الوحدة الترابية للمملكة. في ذكرى مرور خمسين عامًا على هذا الحدث التاريخي، نجد أن “المسيرة الخضراء” لم تكن مجرد حركة شعبية سلمية، بل كانت تعبيرًا قويًا عن إرادة الأمة المغربية التي توحدت حول قضية واحدة هي استرجاع الأقاليم الجنوبية.
السياق التاريخي للمسيرة الخضراء
تأتي “المسيرة الخضراء” في سياق تاريخي مليء بالتحديات. ففي تلك الفترة، كانت الأقاليم الجنوبية للمغرب تحت الاحتلال الإسباني، وكان المغرب يواجه صعوبات في استكمال سيادته على أراضيه. وكان العالم العربي آنذاك يشهد تحولات كبيرة مع نهاية الاستعمار في العديد من الدول. وبعد أن أقرت محكمة العدل الدولية بوجود “روابط قانونية وبيعة” بين سلاطين المغرب والقبائل الصحراوية، جاء قرار الملك الحسن الثاني بإطلاق هذه المسيرة، التي مثلت خطوة دبلوماسية قوية لتحقيق المطالب الوطنية.
الدعوة لتوحيد الصفوف
في السادس من نوفمبر 1975، انطلقت “المسيرة” بمشاركة 350 ألف مغربي من مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية، توجهوا جميعًا إلى الصحراء حاملين العلم المغربي والمصحف، كرسالة للعالم تفيد بأن المغرب لن يتنازل عن صحرائه. كانت هذه الخطوة بمثابة إعلان لتعبئة شعبية شاملة ضد كل محاولات التفريط في السيادة الوطنية. كما أنها أظهرت قوة الوحدة الوطنية والتضامن بين جميع فئات الشعب المغربي.
النتائج السياسية والقانونية للمسيرة
بعد “المسيرة الخضراء”، بدأ المغرب في تعزيز سيادته على الأقاليم الجنوبية. ففي عام 1979، بدأ الملك الحسن الثاني الدعوة إلى السلام مع الأطراف الأخرى، مما فتح الباب أمام مبادرات المصالحة، وتم تحقيق المصالحة الوطنية في عام 1988، والتي أسهمت في استقرار المنطقة بشكل كبير. ومن ناحية أخرى، حصل المغرب على دعم واسع من المجتمع الدولي فيما يتعلق بمغربية الصحراء، حيث أكدت محكمة العدل الدولية على العلاقة التاريخية بين المغرب والأقاليم الصحراوية، مما جعل الموقف المغربي أكثر قوة على الساحة العالمية.
التحديات الاقتصادية والاجتماعية بعد المسيرة
رغم النصر السياسي، واجهت الأقاليم الجنوبية تحديات اقتصادية واجتماعية كبيرة. فقد كانت المنطقة بحاجة إلى بنية تحتية قوية لتلبية احتياجات السكان المحليين. على الرغم من هذه الصعوبات، فإن الحكومة المغربية بدأت في تنفيذ مشاريع ضخمة لتحسين الوضع في هذه الأقاليم، بدءًا من بناء الطرق والموانئ، وصولاً إلى تحسين قطاع التعليم والصحة.
السياسة الخارجية المغربية.. تعزيز المواقف
بفضل “المسيرة الخضراء”، دخل المغرب مرحلة جديدة في سياسته الخارجية. فإلى جانب تعزيز العلاقات مع الدول العربية، قام المغرب بتعزيز علاقاته مع إفريقيا ورفع من حضور قضية الصحراء في محافل الأمم المتحدة. وفي عام 2007، قدم المغرب مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء تحت سيادته، وهي مبادرة قوبلت بتقدير من قبل المجتمع الدولي، ما جعلها جزءًا من الحلول الواقعية التي تُطرح لحل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية.
النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية
سنة 2015 شهدت إعلان النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية، وهو نموذج يسعى إلى تحقيق تنمية شاملة ومستدامة في المنطقة. وقد خصصت الحكومة ميزانية ضخمة تجاوزت 85 مليار درهم لتنفيذ مشاريع بنية تحتية ضخمة مثل الموانئ، الطرق، والطاقة المتجددة. هذا النموذج التنموي أصبح يمثل مثالًا يحتذى به في كيفية استغلال الموارد الطبيعية والطاقات البشرية لتحقيق التقدم والتنمية.
المبادرة الملكية الأطلسية.. تعزيز التكامل الإقليمي
وفي عام 2023، أطلق جلالة الملك محمد السادس “المبادرة الملكية الأطلسية”، التي تهدف إلى تسهيل وصول دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، مما يعزز التكامل الاقتصادي بين المغرب ودول المنطقة. المبادرة تعد جزءًا من الرؤية الاستراتيجية للمملكة لتعزيز التعاون مع إفريقيا وتعميق العلاقات الاقتصادية بين الأطراف المختلفة، مما يعكس طموحات المملكة في بناء مستقبل مشترك وموحد.
الاعترافات الدولية بمغربية الصحراء
تستمر “المسيرة الخضراء” في تشكيل خلفية قوية للموقف المغربي على الساحة الدولية. فقد بدأت العديد من الدول الكبرى بالاعتراف بمغربية الصحراء، وكان أبرزها اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية في 2020، تلته دول أخرى مثل إسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة. وهذا الإجماع الدولي المتزايد يعزز موقف المغرب في النزاع الجاري حول الصحراء.
التحديات المستقبلية والفرص
رغم الإنجازات الكبيرة التي تحققت، لا تزال هناك تحديات عديدة تواجه المغرب في الحفاظ على استقرار الأقاليم الجنوبية وتحقيق التنمية المستدامة. يجب على المملكة الاستمرار في تنفيذ المشاريع التنموية وفتح فرص جديدة للعمل والاستثمار في المنطقة. كما أن تعزيز الديمقراطية واللامركزية سيكون مفتاحًا لتحقيق استقرار دائم.
نظرة مستقبلية.. استمرارية المسيرة الخضراء
بعد مرور خمسين عامًا على “المسيرة الخضراء”، يتضح أن هذه الحركة التاريخية لم تكن مجرد محطة سياسية، بل كانت حجر الزاوية في مسار طويل من الوحدة الوطنية والتنمية المستدامة. اليوم، وفي ظل الاعتراف الدولي المتزايد بمغربية الصحراء، يظل المغرب ثابتًا في موقفه المؤيد لحقوقه التاريخية ويواصل تعزيز سيادته على كامل أراضيه. هذه الذكرى تظل محط فخر للمغاربة، وتذكرهم بأهمية التضامن الوطني من أجل تحقيق الأهداف الكبرى.

تعليقات