آخر الأخبار

إطلاق بنسعيد “ديسكورد المغرب” للألعاب يثير تساؤلات واسعة.. فهل تسعى الحكومة إلى احتواء الغضب الشبابي؟

في خطوة ارتجالية أثارت كثيرًا من النقاش، أعلن وزير الشباب والثقافة والتواصل محمد المهدي بنسعيد عن إطلاق منصة رقمية جديدة تحت اسم “ديسكورد المغرب”، موجهة إلى اللاعبين وصناع المحتوى الشبابي. المبادرة التي وُصفت رسميًا بأنها وسيلة لتعزيز التواصل مع الجيل الرقمي، جاءت في سياق اجتماعي متوتر يتّسم بتصاعد الاحتجاجات الشبابية وموجة من فقدان الثقة في الخطاب الحكومي.

غير أن هذه الخطوة، التي تحمل ملامح الانفتاح التقني، تُخفي وراءها مقاربة اتصالية مضطربة، تعكس غياب تصور واضح لعلاقة الحكومة بالجيل الرقمي. فبدل أن تكون المنصة مساحة للحوار، بدت للكثيرين محاولةً لتأطير الغضب داخل فضاء مراقَب، لا لتفريغه في نقاش مفتوح.

من حيث المبدأ، لا يُمكن إنكار أن الرقمنة باتت ضرورية في تدبير الشأن الثقافي والشبابي. لكن حين تُدار هذه المبادرات بعقلية الواجهة، تصبح أدوات تجميل سياسي لا أكثر. وهنا يكمن مأزق سياسة بنسعيد: الانبهار بالشكل التقني دون مضمون تواصلي فعلي، وغياب أي ربط بين “التفاعل الرقمي” و“الإنصات الواقعي”.

فمنصة ديسكورد، كما هو معروف، ليست قناة رسمية بل فضاء أفقي تحكمه الثقة والندية والمبادرة الفردية. دخول وزارة بخطاب بيروقراطي إلى هذا العالم يُفقدها تلقائيًا شرعية المشاركة. فالشباب المغربي الذي يرى في هذه المنصات ملاذًا للتعبير الحر، لن يتفاعل مع حضور رسمي يُذكّره بما يهرب منه في الواقع.

الأرقام توضح المفارقة أكثر مما تبرر الخطوة. فالمغرب يضم أكثر من 3 ملايين لاعب نشط ونحو 15 مليون مستخدم جزئي، في سوق يُتوقع أن ينمو بنسبة 9٪ سنويًا حتى 2027، بحسب بيانات Statista وNewzoo. ومع ذلك، لم يكن هذا النمو ثمرة سياسة حكومية، بل جهدًا ذاتيًا من مجتمع رقمي مستقل. فكيف لوزارة لم تبنِ هذه القاعدة أن تدّعي قيادتها؟

المعضلة في سياسة بنسعيد ليست في طموحها، بل في غياب المصداقية العملية. فالشباب المغربي لا يطالب بمخاطبته في الخوادم، بل بإشراكه في القرارات. لا يريد منصة افتراضية، بل إصلاحًا واقعيًا في التعليم، التشغيل، والثقافة. فحين يغيب الإصغاء الحقيقي، يصبح كل تواصل رسمي ضجيجًا رقميًا بلا معنى.

كما أن مقاربة الوزير تبدو أقرب إلى حملة تسويق ذات طابع سياسي أكثر من كونها مشروعًا مؤسساتيًا متكاملًا. الاعتماد على التفاعل الآني بدل الاستماع المستمر جعل من سياسة الاتصال الحكومي سلسلة مبادرات ظرفية، لا رؤية متماسكة. “ديسكورد المغرب” هنا ليس سوى حلقة جديدة في هذا النمط.

ولا يختلف هذا المشروع عن عشرات المنصات التي أُطلقت في المغرب تحت شعار “الاقتراب من المواطن”، لكنها سرعان ما خمدت لافتقارها للجدية والمتابعة. فالمشكل ليس في غياب القنوات، بل في غياب الإرادة الحقيقية لملئها بالمحتوى الهادف.

اليوم، لا تحتاج الحكومة إلى مزيد من التطبيقات والمنصات بقدر ما تحتاج إلى إصلاح الثقة المكسورة. فالتقنية لا تصلح ما تفسده السياسة، والفضاء الافتراضي لا يُعيد ما ضاع في الواقع. إذا أراد بنسعيد أن يربح رهان التواصل، فعليه أن يبدأ من الميدان لا من الشاشة.

في النهاية، “ديسكورد المغرب” ليس مبادرة فاشلة في ذاتها، بل رمز لسياسة ارتجالية تُدار بردود الأفعال بدل الرؤى. فحين يُختزل الحوار الوطني في خادم رقمي، تفقد الدولة معناها كمؤسسة قادرة على الإصغاء. والفرق بين الصوت والإنصات هو ما يجعل هذه الخطوة — مثل كثيرات قبلها — عنوانًا جديدًا لسياسة بلا بوصلة.

المقال التالي