آخر الأخبار

خطاب الملك أمام البرلمان: دعوة إلى النضج السياسي وتصحيح المسار عبر المؤسسات

عبد الله مشنون
كاتب صحفي

في لحظة دقيقة من الزمن السياسي المغربي، وفي ظل ارتفاع منسوب التوتر الاجتماعي على خلفية مطالب معيشية ملحة، جاء الخطاب الذي ألقاه جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، أمام غرفتي البرلمان، يوم 10 أكتوبر 2025، ليضع النقاش الوطني على سكته المؤسسية، مؤكداً أن الانتقال الديمقراطي لا يُدار بردود فعل آنية، بل بحسّ مسؤول يستوعب عمق التحولات وسياقاتها.

بعيدًا عن العبارات العاطفية أو الرسائل الانفعالية، أتى الخطاب الملكي بتوازن ملحوظ بين الإنصات لحراك الشارع والتمسك بخيارات الدولة الدستورية. فرغم الزخم الذي صاحب الاحتجاجات الشعبية الأخيرة، لم يُبدِ الملك أي نية للخروج عن الإطار الدستوري الذي ارتضاه المغاربة منذ إقرار وثيقة 2011، بل جدّد التأكيد على أن الحلول السياسية يجب أن تمر عبر آليات الانتخاب والتداول، لا عبر التدخلات الفوقية.

هذا الموقف ليس جديدًا، بل يندرج ضمن تصور ملكي يقوم على مبدأ “الملكية الدستورية الفاعلة”، التي ترافق الدينامية السياسية ولا تبتلعها، وتوجه السياسات العمومية دون أن تحلّ محلّ الفاعلين المنتخبين. وهنا يكمن المعنى الأعمق لما وصفه البعض بـ”هدوء الخطاب”: إنه إصرار على احترام الحدود الفاصلة بين السلطات، والرهان على وعي المواطن كعنصر حاسم في إعادة تشكيل المشهد السياسي خلال الاستحقاقات المقبلة.

لقد عبّرجلالة الملك محمد السادس بوضوح عن استيعابه للمطالب الشعبية، خاصة تلك المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وتحسين الخدمات الأساسية من اهمها التعليم والصحة، لكن من دون أن ينجرف نحو قرارات شعبوية قد تُفرغ المؤسسات من مضمونها. فجلالة الملك حفظه الله لم يغفل الإشارة إلى مواطن الخلل في أداء الحكومة، منتقدًا بشكل غير مباشر بطء وتيرة الإصلاح، وغياب النتائج الملموسة على الأرض، إلا أن النقد جاء ضمنيًا، محمَّلًا برسائل مسؤولة بعيدة عن منطق الإدانة.

ومن اللافت في هذا السياق، أن الخطاب الملكي السامي جاء كترجمة جديدة لعلاقة خاصة تربط الملك بشعبه، علاقة تتجاوز المفهوم التقليدي للحكم، لتأخذ طابعًا إنسانيًا وتواصليًا فريدًا. فالمغاربة، كما أظهر التاريخ القريب والبعيد، يرون في الملك ملاذًا حين تغيب الاستجابة من مؤسسات الوساطة أو تضعف فعالية الحكومة. وقد أثبتت السنوات الماضية أن جلالة الملك محمد السادس يُتابع بدقة ما يُشغل المواطن، ويصغي بانتباه لنبض الشارع، ويتفاعل بجدية ومسؤولية مع كل ما من شأنه أن يُهدد السلم الاجتماعي أو يُضعف ثقة الناس في الدولة. غير أن هذا التفاعل لا يتم خارج إطار القانون، بل دائمًا ضمن نطاق الدستور واحترام توازن السلطات، مما يعكس إرادة ملكية في تعزيز الدولة الحديثة لا في الالتفاف على قواعدها.

الأهم من ذلك، أن الخطاب الملكي أعاد توجيه البوصلة نحو صناديق الاقتراع كأداة وحيدة لتصحيح المسار السياسي، مؤكدًا أن الحكومة الحالية، وإن كانت محلَّ جدل، تبقى نتاج إرادة شعبية تم التعبير عنها في انتخابات 2021، وأن من يملك سلطة التغيير الحقيقي هم الناخبون أنفسهم، في محطة 2026 القادمة.

هذا التأكيد ليس مجرد موقف دستوري، بل هو رسالة واضحة مفادها أن المؤسسة الملكية لن تكون بديلاً عن الإرادة الشعبية، ولن تمارس وصاية على نتائج الاقتراع. فالزمن الذي كانت فيه “القرارات الكبرى” تتخذ خارج الشرعية الانتخابية، أصبح خلفنا وولى.

من جهة أخرى، يمكن قراءة الخطاب الملكي أيضًا كفرصة أخيرة للسلطة التنفيذية كي تراجع أداءها وتستدرك ما يمكن استدراكه. فالإشارة إلى ضرورة تغيير العقليات واعتماد ثقافة النتائج، ليست ترفًا لغويًا، بل إنذارًا مبطنًا بأن المرحلة المقبلة لن تحتمل المزيد من الارتباك. وبمعنى أوضح: الشرعية الانتخابية لا تعني شيكًا على بياض.

وفي المقابل، لا يمكن إغفال حقيقة مرة أصبحت اليوم ملموسة في وجدان الجيل الجديد: الإحباط، والشعور بالإقصاء، وتراجع الأمل. فشباب اليوم، وهم عماد المستقبل، يعيشون واقعًا صعبًا يتسم بتدهور جودة التعليم، وتدهور المنظومة الصحية، وغياب آفاق التشغيل، فضلاً عن ما يُوصف بتدبير غير ناجع للشأن العام من قبل حكومة عزيز أخنوش. وبينما تتصاعد هذه المعاناة، تظل المؤسسة الملكية، في نظر جزء كبير من المواطنين، الحصن الأخير للثقة، والمكان الذي يقصدونه عندما تختل التوازنات، وتفقد الجهات المسؤولة قدرتها على الاستجابة الفعلية لمتطلبات الواقع.

إن ما يمكن استخلاصه في نهاية المطاف هو أن خطاب جلالة الملك محمد السادس لم يكن لحظة غضب، ولا تمرينًا بروتوكوليًا، بل إعلانًا واضحًا عن استمرار الالتزام بثقافة الدولة ومؤسساتها، ودعوة إلى تحمل المسؤولية عبر الآليات الديمقراطية. فالدستور هو المرجع، والمواطن هو الفيصل، والمرحلة تتطلب قدرًا عاليًا من النضج السياسي.

المقال التالي