من الفلاح إلى المستهلك.. فوضى أسواق الخضر والفواكه تكبد خسائر ضخمة وتثقل جيوب الأسر

تعيش أسواق الخضر والفواكه في المغرب أزمة متشابكة تكشف عن اختلالات عميقة تتجاوز مجرد تقلب الأسعار لتصل إلى مستوى الأعطاب البنيوية. فالأرقام الرسمية تؤكد أن ما يقارب 40% من الإنتاج السنوي يضيع بسبب ضعف التخزين والنقل وغياب قنوات تسويق فعالة، وهو ما يترجم إلى خسائر تناهز عشرة مليارات درهم سنوياً. هذه الخسائر تتضاعف بفعل سلسلة من الوسطاء والمضاربين الذين يرفعون الأسعار بشكل مبالغ فيه، إذ قد تصل الطماطم من درهمين عند الفلاح إلى ثمانية دراهم عند المستهلك، في مشهد يختزل الانفلات الكامل لمنطق السوق.
وراء هذه الفوضى تختبئ شبكة غير مرئية من الوسطاء الذين يتحكمون في مسار المنتجات، حيث تمر أغلب السلع عبر ثلاث إلى خمس حلقات قبل وصولها إلى المواطن. أرباحهم قد تتجاوز خمسين في المائة من قيمة بعض المواد دون أي قيمة مضافة، وهو ما يجعل السوق ساحة مضاربة لا تحكمها قواعد المنافسة السليمة. وفي المقابل، تبدو البنية التحتية لأسواق الجملة عاجزة ومتهالكة، فمعظمها يحتاج إلى إعادة تأهيل شاملة، مع غياب مرافق التبريد وصالات العرض المناسبة وشبكات طرق صالحة، ما يرفع كلفة المعاملات ويغذي ممارسات الرشوة والفساد.
هذا الواقع يفتح المجال لانتشار آلاف الأسواق العشوائية التي تعمل خارج كل الضوابط القانونية والضريبية والصحية. وتشير تقديرات إلى أن عددها يتجاوز خمسة آلاف سوق على المستوى الوطني، حيث تعرض منتجات لا تخضع لأي مراقبة، وهو ما يفسر ارتفاع حالات التسمم الغذائي المرتبطة بخضر وفواكه تستعمل فيها مبيدات محظورة أو تخزن بطرق بدائية. فالمكتب الوطني للسلامة الصحية لا يغطي سوى 15% من المنتجات الموجهة للاستهلاك المحلي، مما يجعل صحة المواطنين مهددة بشكل مباشر في ظل هذه الفوضى.
تداعيات هذه الأزمة انعكست على جيوب الأسر التي تآكلت قدرتها الشرائية، إذ تراجعت نسبة إنفاقها على الخضر والفواكه بنسبة 12% خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ليس نتيجة لتغير العادات الغذائية بل بسبب العجز عن مجاراة الأسعار الملتهبة. وأصبحت هذه المواد التي يفترض أنها أساسية تستهلك ما يقارب 20% من ميزانية الغذاء الشهرية للأسرة المتوسطة، بعدما كانت لا تتجاوز نصف ذلك قبل عشر سنوات. الوضع دفع عدداً من الأسر إلى تقليص استهلاك بعض المواد الطازجة وتعويضها بمنتجات أقل جودة، وهو ما يطرح بدوره مخاطر صحية على المدى الطويل.
ورغم أن مجلس المنافسة قدم في تقريره خارطة طريق واضحة للإصلاح تقوم على إعادة هيكلة أسواق الجملة وتشجيع البيع المباشر وتحديث التشريعات، إلا أن التنفيذ ظل محدوداً للغاية، حيث لم يتم تفعيل سوى أقل من خُمس التوصيات. هذا التباطؤ يضع الحكومة تحت ضغط متزايد من البرلمان الذي أغرقها بأسئلة حول غلاء المعيشة، ومن الشارع الذي يرى في الأسعار مصدر قلق يومي، حيث أظهرت استطلاعات للرأي أن أكثر من 70% من المغاربة يعتبرون الغلاء أولى أولوياتهم.
وتتعمق الأزمة بفعل غياب التنسيق بين الوزارات المعنية، فالفلاحة تسعى لحماية المنتج، والتجارة تركّز على المستهلك، والداخلية تنشغل بالنظام العام، والصحة تحاول فرض رقابة محدودة، فيما تبحث المالية عن موارد ضريبية. هذا التشتت يجعل كل قطاع يشتغل في معزل عن الآخر، ويحول دون صياغة رؤية موحدة قادرة على معالجة الخلل من جذوره. وفي غياب قيادة موحدة، يبقى الملف مفتوحاً أمام مصالح متضاربة تزيد الوضع سوءاً.
اليوم، تجد الحكومة نفسها أمام مفترق طرق حاسم: إما المضي في إصلاح هيكلي شامل يتطلب استثمارات ضخمة وإرادة سياسية لمواجهة لوبيات متجذرة، أو الاستمرار في سياسة الترقيع التي لم تفعل سوى تعميق الأزمة. وبين الخيارين، يظل الزمن عاملاً ضاغطاً، فكل تأخر إضافي يعني استمرار استنزاف جيوب المواطنين، وتفاقم الغضب الشعبي، وتهديد الصحة العامة. ومع تزايد الأصوات المطالبة بالإصلاح العاجل، تبدو هذه الأزمة مرشحة للتحول إلى ملف اجتماعي ساخن قد يرسم ملامح المرحلة السياسية المقبلة.
تعليقات