آخر الأخبار

قصر الملكي والإعداد لمغرب الغد..

1/2-الملك لا يرد على التُّرَّهات


مراد بورجى


أصبحت معضلة المهنية الإعلامية تطرح نفسها، بكثير من الحدّة والملحاحية أكثر من أي وقت مضى، على جريدة “لوموند”، التي تُعتبر أعرق صحيفة فرنسية، ترادفها في المغرب صحيفة “العلم”، اللتين تأسستا معا في نفس السنة (1944)، في المغرب من قِبل نخبة من رواد الحركة الوطنية الاستقلالية، من قبيل علال الفاسي وأحمد بلافريج وعبد الخالق الطريس وعبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد والمهدي بنبركة، وفي فرنسا تأسست لوموند بأمر من حاكمها الجنرال الاستعماري شارل دوغول… مرت سنوات، وتدفقت مياه غزيرة تحت جسر التحولات المجتمعية العامة في فرنسا، فمالت الصحيفة مع تحولات المشهد السياسي، وصارت بخلفية يسارية عامّة، وصولا اليوم، مع رئيس مجلس إدارتها إيرك فوتورنيو ورئيسة تحريرها سيلفي كافمان، حيث باتت معضلة المهنية تتصدّر قائمة الاتهامات، التي تُوجّه للصحيفة في فرنسا وفي العالم…


لا أتحدث، هنا، عن “الاحترافية”، التي يُعتبر صحافيو وصحافيات “لوموند” من أبرز الأقلام حرفةً وحكنةً في أوروبا وفي العالم، وإنما عن “المهنية”، بكل أخلاقياتها وبكل دروسها ومبادئها في توخي التوازن والموضوعية والنزاهة والصدقية، خصوصا عندما يتعلّق الأمر بتحقيق استقصائي، وهي دروس ومبادئ لا بأس ولا غرو ودون ادّعاء يمكن أن أوجّهها للصحفيان كريستوف أياد وفريدريك بوبان، اللذين أنجزا ما يمكن اعتباره “تحقيقا استقصائيا” في 6 حلقات، بنيته الأساسية مبنية على معطيات غير موثوقة تفتقر إلى الدقة والتحقق من كل معلومة من مصادر متعددة والبحث والتحصّل على الأدلة والوثائق وتفادي الشائعات والافتراضات، فتحول بذلك الزميلان من صحافيين إلى قاضيين يَعْرضان على الناس الملفات من جانب واحد ويُصدران أحكامهما في الحُكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع والزواج والطلاق والشقاق…

بمعنى أنه من خلال قراءة بسيطة للمقالات الست يتضح أن صحافيي “لوموند”، يفتقران للمصادر الحقيقية للمعلومة… أو بكلمة أخرى: لم يعد مغرب اليوم كما كان مغرب الأمس، حيث كانت مصادر المعلومات الموثوقة متاحة ومستباحة للإعلام الفرنسي ككل، فمنذ أن تولّى الملك محمد السادس حكم مملكة السلالة العلوية الشريفة، بدأ الوضع في التغيّر تدريجيا وجذريا لغلق منافذ المعلومة من داخل القصر لدرجة أن فاجأهم الملك الجديد برفض الابتزازات، والتبليغ والإعلام بها والتصدّي لها في عقر الديار الفرنسية، بعدما أضحى بعض الصحافيين الفرنسيين يمارسون ابتزاز رموز النظام الملكي في واضحة النهار، فقام الملك بجرجرة أصحابها إلى قصر العدالة بالعاصمة باريس…


والحصيلة، لم تعد للإعلام الفرنسي اليد الطولى على المغرب وأخبار المغرب، وأضحى المسؤولون المغاربة، الذين كانوا يتهافتون على مختلف المنابر الباريسية، أكثر حذرا وانضباطا لقوانين الدولة المغربية تحت طائلة تعرّضهم للحساب والعقاب، وبذلك كفّوا عن أن يولّوا وجوههم صوب إعلام فرنسا لاستقصاء أخبار المغرب، إلى درجة أن هذا الإعلام بات يخبط خبط عشواء في العديد من الأحداث، لعلّ أبرزها، على سبيل لمثال لا الحصر، ترويج المجلّة الفرنسية “جون أفريك”،

في غشت 2022، لـ”خبر” عن إعداد الملك محمد السادس لـ”تعديل حكومي مزعوم”، استنادا إلى “مصدر مُقرّب من الملك”، يستهدف إبعاد حزب البام من الحكومة، وفيما جنح كثيرون إلى تصديق “الخبر”، كنتُ وقتها سبّاقا لتكذيبه، وقدّمت حيثياتي، التي بنيتُ عليها تكذيبي، في مقال نشرته، في حينه، بعنوان (نبأ التعديل الحكومي “المزعوم”.. أخنوش يقدّم وهبي قربانا لـ”هاشتاغ الرحيل”)… ومثلما كان عليه الحال بالأمس، فإن نفس الترويج لتعديل حكومي مفترض عاد ليطفو على السطح، في غشت 2023 عن طريق “جون أفريك”، يُحاول مُروّجوه أن ينسبوا الرغبة في هذا “التعديل المزعوم” إلى القصر الملكي، وإيهام المغاربة أن الملك محمد السادس هو من يريده… فخرجتُ بمقال وقتها تحت عنوان: (الملياردير عزيز أخنوش والتعديل الحكومي.. من البزنس بالنفوذ إلى البزنس في الحكومة)، والقربان هذه المرّة هو حزب الاستقلال، في محاولة ثانية لإقحام القصر بالترويج لإقدام الملك على تعديل حكومي مزعوم، وكأن مؤسسات الدولة متوقفة.


وقلت وقتها إن ذلك افتراء على القصر، وعلى الجالس على العرش، أن يعتقد البعض أن الملك يرغب في تعديل حكومي، لسبب بسيط هو أن الملك محمد السادس ليس هو من اختار حزب الأصالة والمعاصرة، أو حزب الاستقلال لتشكيل أغلبية أخنوش، بل إن أخنوش في الحقيقة كان يريد التخلص من أحد حزبي الأغلبية الحالية، مقابل أن يوفي بوعده بإلحاق حزبين بالحكومة، بعد مرور نصف الولاية من تعطيلهما للمعارضة، نُشر هذا في العديد من المنابر الإعلامية، وكان أن جاء “تعديل أخنوش الحكومي” في أكتوبر 2024 الذي غابت فيه بصمة الملك محمد السادس عن التشكيلة الجديدة للمؤسسة التنفيذية، ولوحظ غياب ولي العهد، فتساءلت في مقالة وقتها بعنوان: (تعديل أخنوش الحكومي والتمرد على أوامر الكفاءة والاختصاص! هل يستعد المغرب لانتخابات سابقة لأوانها؟).


هذا مجرّد نموذج لسلسلة من الأخبار “الزائفة” أو “المدسوسة” في منابر ومواقع فرنسية، سببها، بالأساس، التغيّر الدراماتيكي في العلاقة بين فرنسا ومستعمرتها السابقة المغرب، إذ شرعت العلاقة تتحوّل من “ماما فرنسا” إلى الندّية، التي كشفتْ عن جدارتها في العلاقات الدولية والديبلوماسية لمملكة محمد السادس، وأصبح الإعلام الفرنسي في حالة “فشل” أو “عجز” عن اختراق “جدار صوت” المسؤولين المغاربة، وهذا ما يكشفه “التحقيق الاستقصائي” لجريدة “لوموند” حول “لغز الملك”، حتى أن صحافيي “لوموند”، اللذين أوردا قصة من “حكواتي الحلقة” عن دواعي ما أسمياه “الضغينة” بين الملك محمد السادس وابن عمه الأمير هشام، اضطرا إلى الاعتراف بأنه “من الصعب تأكيد هذه القصة من القصر، مثل غالبية معلومات هذا التحقيق”،(لننتبه إلى عبارة “مثل غالبية معلومات هذا التحقيق”)، وعلّلا ذلك بأن “الإدارة الملكية عادة لا ترد على طلبات الصحافيين الأجانب”، وهي عبارة مثيرة للشفقة، وأساسا للسخرية،

عندما نعلم أن هناك تدوينة على “فايسبوك” وكذا “إكس” (تويتر سابقا)، كتبها الأمير هشام على حسابه الخاص في يوم 23 نونبر 2020، بعد أن ظل مقيما بالمغرب خلال مرحلة جائحة كورونا، يقول فيها إن الملك محمد السادس آواه ببيته، واستطرد يشرح قائلا: “رغم علاقتي الصعبة بيني وبينه، لقد كان العم المنتبه لفائزة وهاجر (بِنتَيْ الأمير هشام)، بالطريقة نفسها التي كان بها مع كل فرد من أفراد الأسرة بأكملها”، وزاد هشام العلوي قائلا إن ابنتيه “بسبب موقفه (الملك)، لم تتمكنّ فقط من تحقيق ذاتهن ولكنهن لم يفقدن أبدًا إحساسهن العميق بالهوية والتراث المغربي”، قبل أن يؤكد الأمير هشام أن الملك محمد السادس “يستحق المزيد من التقدير والاعتراف”، وهي تدوينة وضعها الأمير “الأحمر” لمتابعيه، وخصوصاً للصحافيين، لكل غاية مفيدة، وقد عرجت على ذلك في مقالة تحت عنوان: (إلى أين يسير القصر بالمغرب؟ 3/3 الأمير والمستشار ومؤرخ المملكة السابق)، نُشر في عدة منابر إعلامية في يونيو 2024، وكانت دعوتي للجميع في ختام المقالة هي: (نحن في حاجة إلى تعميق النقاش العمومي حول المغرب، الذي نريده جميعا، ويسعنا جميعا، مغرب أبناء وأحفاد جميع شرائح ومكونات المجتمع المغربي، نقاش لا يتوقف عند جهة ما دون أخرى، أو يستطيع أحد أن يحتكره لنفسه، بما في ذلك (القصر) وحواريوه، فيما الجالس على العرش اليوم الملك محمد السادس، بصفته على رأس العارفين بالله، وعلى رأس العارفين بخبايا الأمور، له أجندته في ذلك وهي مُحكمة، مع توزيع مدقق للأدوار، تؤطرها سلطة معلومة حصرية، تتجسد في خارطة طريق مبنية على 104 من الخطابات، قال ملك البلاد في أحدها: (الحمد لله، نتوفر على إرادة قوية وصادقة، وعلى رؤية واضحة وبعيدة المدى. إننا نعرف من نحن، وإلى أين نسير)، وزاد في خطاب آخر يقول: (أنا أزن كلامي، وأعرف ما أقول… لأنه نابع من تفكير عميق)”.


غياب النقاش العمومي هو ما يترك المجال أمام من هب ودب ليصدر الفتاوى السطحية القائمة على توجّهات مهزوزة المضمون وغامضة المصدر، وهو حال صحافيي جريدة “لوموند” كريستوف أياد وفريدريك بوبان، اللذين اعترفا بأن “غالبية معلومات تحقيقهما صعبة التأكيد”، وهو ما سيظهر بجلاء في مختلف حلقات “التحقيق” الست، إذ في كل موضعٍ يتطلب ذِكر أو النصّ على مصدر خبر ما، نجدهما يستعملان عبارات فضفاضة من قبيل:

  • يُحلّل فاعل سياسي فضّل عدم ذكر اسمه…
  • يَرى معظم المراقبين للملكية المغربية…
  • يَشهد أحد العارفين جيدا بالقصر…
  • يَعترف أحد المقرّبين من السلطة…
  • يُفسر وزير إسباني سابق كان ذا صلة بإدارة العلاقة مع المملكة المغربية الشريفة…
  • يَفترض أحد المعتادين على البلاط…
    وهنا تظهر المعضلة الحقيقية أو الهوة اللامهنية، التي سقط فيها صحافيا “لوموند”، الأمر الذي يبرّر وضع تحقيقهما الاستقصائي في قفص الاتهام، ليكون نموذجا إضافيا إلى سلسلة النماذج والحالات، التي اعتمد عليهما الصحافيان الفرنسيان الزميلان بيار بِّيان وفيليب كوهين، في صياغة كتابهما (الوجه الخفي لـ”لوموند”.. من سلطة المراقبة إلى إساءة استعمال السلطة)، الصادر سنة 2003، والذي عرف انتشارا واسعا، إذ بيعت، في اليوم الأول لصدوره، حوالي 60 ألف نسخة، قبل أن تتجاوز مبيعاته، بعد ذلك، 200 ألف نسخة.

  • الكتاب عبارة عن تحقيق استقصائي يضرب في الصميم صورة ومصداقية جريدة “لوموند”، التي كانت تعتبر”صحيفة مرجعية” في فرنسا وفي العالم، ويرصد كيف تحوّلت من مؤسسة مستقلة و”سلطة مضادة” إلى فاعل سياسي واقتصادي مؤثر يستعمل نفوذه أحياناً بشكل منحرف، لتصفية حسابات أو لتلميع بعض الشخصيات السياسية والفكرية أو لتشويه سمعة وصورة سياسيين ورجال أعمال ومثقفين، بحسب مصالحها الخاصة السياسية والاقتصادية والمالية…

  • إنها التهمة نفسها، التي يرفعها في المغرب، اليوم، مسؤولون وسياسيون وفاعلون إعلاميون ومدنيون، في وجه “التحقيق الاستقصائي المزعوم”، الذي عمَد كاتباه، الزميلان كريستوف أياد وفريدريك بوبان، إلى ضرب أخلاقيات مهنة الصحافة وإلغاء كلّي للمبادئ المهنية الأساسية اللازمة لكل تحقيق استقصائي، من خلال تعمّد واستقصاد المس بصورة الجالس على عرش المملكة المغربية، بحكايات ومعطيات غير مسنودة، وباستعمال أساليب وعبارات تعبيرية تتعمّد الإساءة، وهو ما يمكن أن يرصده كل إعلامي استقصائي وكل ذي عين فاحصة ومتيقظة في مختلف الحلقات الستّ، ويمكن أن نقدّم بعض النماذج على “سوء استعمال سلطة الصحافة” من خلال قضيتين محوريتين: الاستقرار السياسي للمملكة، وقضية الصحراء المغربية…
    يتبع..
المقال التالي