تحقيق “مغرب تايمز” يكشف مؤشرات مقلقة لإنخفاض السدود وصعود “مافيا الصوندات”

تعيش المملكة المغربية هذا الصيف على وقع أزمة مائية غير مسبوقة، تجمع بين تراجع حاد في منسوب السدود واستنزاف متزايد للمياه الجوفية عبر الحفر العشوائي للآبار. هذه المؤشرات دفعت خبراء ومؤسسات رسمية إلى دق ناقوس الخطر، محذرين من أن الأمن المائي أصبح على المحك، وأن المغرب قد يدخل مرحلة “الندرة المائية الحادة” خلال السنوات القليلة المقبلة.
السدود في أدنى مستوياتها
بحسب بيانات وزارة التجهيز والماء، بلغت نسبة ملء السدود المغربية يومه 24 غشت 34,22% فقط، وهو ما يعادل 5.736 مليار متر مكعب، من أصل سعة إجمالية تبلغ 16.762 مليار متر مكعب. هذه النسبة تسجل تراجعاً مقلقاً إذا ما قورنت بمنتصف يونيو الماضي حين كانت في حدود 38,9%. وخلال شهرين فقط فقدت السدود حوالي 792 مليون متر مكعب، ما يكشف هشاشة البنية المائية أمام تغيرات مناخية غير معتادة.
موجات حر وجفاف متكرر
العوامل المناخية لعبت دوراً محورياً في هذه الأزمة. فقد عرف المغرب منذ مطلع يونيو موجات حر استثنائية، تزامنت مع رياح “الشركي” الجافة التي ساهمت في تبخر سريع لمياه السدود، خاصة تلك الموجودة بالمناطق الداخلية والجنوبية. ومع تسجيل انخفاض بنسبة 36% في التساقطات المطرية عن المعدل الطبيعي خلال الفترة بين شتنبر 2024 وفبراير 2025 (مديرية الأرصاد الجوية المغربية)، أصبح واضحاً أن الجفاف لم يعد مجرد ظاهرة موسمية بل واقعاً متكرراً يتطلب حلولاً جذرية.
ضغط الاستهلاك والفلاحة
إلى جانب المناخ، فإن سلوكيات الاستهلاك تضاعف حجم الأزمة. فالمياه توجه بشكل واسع إلى أنشطة فلاحية تستنزف كميات هائلة، مثل زراعة الأفوكادو (1800 لتر/كغم وفق المعهد الوطني للبحث الزراعي)، في وقت يرتفع فيه الطلب المنزلي على الماء مع ارتفاع درجات الحرارة. خبراء يؤكدون أن النموذج الفلاحي الحالي لم يعد قادراً على التكيف مع الندرة، ويحتاج إلى مراجعة شاملة تأخذ بعين الاعتبار محدودية الموارد المتاحة.
خطر الحفر العشوائي يتفاقم
الأزمة تتعمق أكثر مع تنامي ظاهرة الحفر العشوائي للآبار. المرصد المغربي لحماية المستهلك تحدث عن انتشار ما سماه “مافيا الصوندات”، وهي شبكات تعمل على حفر آبار دون تراخيص قانونية، مستغلة حاجة سكان القرى للماء. هذه الممارسات، التي تزايدت بشكل لافت في مناطق مثل مراكش آسفي وزاكورة، حولت العطش إلى تجارة مربحة، لكنها تترك آثاراً مدمرة على المخزون الجوفي.
أرقام مقلقة عن المياه الجوفية
الأرقام الرسمية (المندوبية السامية للمياه والغابات 2024) تشير إلى وجود حوالي 235 ألف بئر في المغرب، 40% منها (94,000 بئر) حفرت بطرق غير قانونية. الدراسات الأخيرة توضح أن المخزون الجوفي يتراجع سنوياً بما بين متر وثلاثة أمتار في بعض المناطق، وهو معدل ينذر بخطر حقيقي على الأجيال القادمة التي قد تجد نفسها محرومة من أهم مصدر للحياة.
قانون ضعيف التنفيذ
القانون رقم 36.15 المتعلق بالماء ينص على غرامات مالية تتراوح بين 10.000 و20.000 درهم ضد المخالفين، إضافة إلى مصادرة المعدات وردم الآبار غير المرخصة. لكن رغم وضوح النصوص، يظل الإشكال في ضعف المراقبة وصعوبة التنفيذ على أرض الواقع (23% فقط من المخالفات تم تغريمها وفق وزارة العدل 2023)، ما يجعل الظاهرة في توسع مستمر دون رادع حقيقي.
دعوات إلى تدخل عاجل
أمام هذه الوضعية، تتعالى الأصوات المطالبة بتدخل صارم، عبر تشكيل لجان ميدانية تضم وزارة الداخلية والدرك الملكي ووكالات الأحواض المائية، لمراقبة عمليات الحفر وضبط المتلاعبين. كما يُقترح إحداث سجل وطني للمقاولين المعتمدين، مع إلزامية ترقيم الآليات المستعملة في الحفر لمنع غير المرخصين من الاستمرار في هذه الأنشطة.
التحلية وإعادة التدوير كخيارات استراتيجية
الحلول التقنية باتت خياراً لا مفر منه، وفي مقدمتها مشاريع تحلية مياه البحر. المغرب يخطط لإنتاج 1.7 مليار متر مكعب من المياه المحلاة بحلول 2030 (وزارة التجهيز والماء)، في خطوة ستخفف الضغط عن السدود والموارد الجوفية. كما أن إعادة استخدام المياه العادمة المعالجة يشكل بديلاً فعالاً لتغطية حاجيات الفلاحة والصناعة، وتقليل الاعتماد على الموارد الطبيعية المتناقصة.
مراجعة السياسات الفلاحية
جانب آخر لا يقل أهمية يتعلق بضرورة مراجعة السياسات الفلاحية. كثير من الخبراء يؤكدون أن استمرار زراعة محاصيل كثيفة الاستهلاك للماء لم يعد مقبولاً في ظل التغير المناخي، داعين إلى توجيه الجهود نحو زراعات أقل استهلاكاً وأكثر ملاءمة للظرفية البيئية، بما يحافظ على الأمن المائي والغذائي في آن واحد.
إنذار لا يحتمل التأجيل
تشير التوقعات (المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية) إلى أن نصيب الفرد من المياه في المغرب قد ينخفض إلى أقل من 500 متر مكعب سنوياً بحلول 2030، وهو ما يضع المملكة في خانة “الندرة المائية الحادة”. ما بين انهيار منسوب السدود وطغيان “مافيا الصوندات”، يتأكد أن أزمة المياه لم تعد مسألة ظرفية بل تحدياً استراتيجياً يهدد التنمية والاستقرار، ويستدعي رؤية وطنية صارمة تقوم على التدبير الرشيد، التفعيل الحازم للقوانين، وتعبئة شاملة لكل الفاعلين.
تعليقات