آخر الأخبار

الملك يوجّه نحو تنمية منصفة.. وحكومة الملياردير تزرع الغلاء وتحصد الفقر

في زمن يُسوَّق فيه لصورة “مغرب صاعد” ونموذج تنموي طويل الأمد، تعيش الأسواق المغربية على وقع موجة غلاء خانقة، بينما تتآكل الوعود الحكومية تحت وطأة أرقام متضاربة وصمت رسمي مريب. وبين خطاب ملكي يربط شرعية التنمية بتحسين عيش المواطن، وواقع تُحتكر فيه الأرض والماء والعائد، يطفو على السطح سؤال لا يمكن تجاهله: من المسؤول عن فشلنا الغذائي؟

لفهم هذا الإخفاق، لا بد من العودة إلى الوراء. فعلى مدى 12 سنة من تنفيذ “مخطط المغرب الأخضر”، ظل وزير الفلاحة آنذاك، عزيز أخنوش، يُدير المشروع كما لو كان ضيعته الخاصة، محصناً من أي نقد أو مساءلة. وقد رُوّج لهذا المخطط كأداة لمحاربة الفقر وتحديث الفلاحة، غير أن نتائجه كشفت واقعًا مغايرًا: تعزيز نفوذ كبار الفلاحين، وترك السوق الوطنية فريسة لتقلبات المناخ وجشع المضاربين.

الخطاب الرسمي يحتفي بـ”عصرنة الفلاحة” وارتفاع صادرات الخضر والفواكه، لكن الواقع يروي شيئًا آخر: عرض محدود، أسعار ملتهبة، وفلاحة نخبوية تُنتج الكيوي والمانغو، وتتجاهل القمح والعدس. كيف يُعقل أن يُباع لتر زيت الزيتون بـ85 درهمًا في بلد يُنتج آلاف الأطنان منه سنويًا؟ وكيف تُستهلك معظم الموارد المائية في زراعات تصديرية، بينما العطش يحاصر قرى بأكملها؟

في خطاب العرش الأخير، عبّر الملك محمد السادس عن استيائه صراحة، قائلاً: “لا أرضى بأي تنمية لا تنعكس إيجاباً على عيش المواطنين”، مشددًا على ضرورة تدارك الفوارق المجالية والاجتماعية. ورغم وضوح هذا التوجيه، ما تزال السياسات الفلاحية تسير في الاتجاه المعاكس: مياه السدود تُوجّه لريّ البطيخ في زاكورة، والفرشات المائية تُستنزف لإرواء أشجار الأفوكادو المعدّة للتصدير.

ولا يقف الأمر عند استنزاف الموارد، بل يشمل أيضًا سوء التدبير. فقد كشف تقرير المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2025 أن أكثر من نصف وحدات تثمين الزيتون الممولة في إطار مخطط المغرب الأخضر لم تتجاوز مدة اشتغالها 10 أيام في السنة، في حين أن جزءًا منها لم يشتغل إطلاقاً، رغم أن كلفتها الإجمالية تجاوزت مئات الملايين من الدراهم.

أخنوش، الذي انتقل من وزارة الفلاحة إلى رئاسة الحكومة، لم يغير شيئًا من نهجه. ظل متمسكًا بنفس العقلية التجارية، بنفس الهوس بالربح، ونفس اللامبالاة تجاه معاناة الفئات الهشة. لا عجب أن يحتفظ الرجل بمكانته في تصنيف “فوربس”، بينما يعجز المواطن عن اقتناء خبز أو ماء أو زيت بثمن معقول. ويكفي أن نعلم أن متوسط الدخل الفردي في المغرب لم يتجاوز 4950 درهمًا شهريًا سنة 2025، مقابل تضخم ناهز 6.2%، وفق آخر تقارير المندوبية السامية للتخطيط.

ولتفسير هذا الانهيار، تلجأ الحكومة إلى ترديد رواياتها الجاهزة: الحرب، الجفاف، الدولار… لكن الواقع يُكذبها: أسعار المواد الأولية انخفضت عالميًا خلال النصف الأول من 2025، والمحروقات تراجعت في خمس قارات… باستثناء المغرب، حيث لا تنخفض إلا القدرة الشرائية، وترتفع فقط لغة الخشب، مصحوبة بشعارات جوفاء من قبيل “الحماية الاجتماعية” و”تحسين القدرة الشرائية” و”دعم الفئات الهشة”.

وفي الوقت الذي يُفترض فيه أن تعيد الدولة النظر في علاقتها بمواطنيها، نجد الثقة تتآكل. الحكومة تبتسم أمام الكاميرات، والمغاربة يئنّون تحت ثقل الفواتير اليومية. وحده خطاب العرش بدا وكأنه صرخة وسط صمت ثقيل، في حين أطلقت حكومة أخنوش “جيلًا جديدًا من البرامج” على الورق، وتركَت المواطن يواجه وحده واقع التدهور.

إذا كانت التنمية الحقيقية تبدأ من الأرض، فإننا اليوم نحرثها بالوعود، ونحصد الغلاء. في مغرب “الفلاحة العصرية”، هناك فلاحون بلا ماء، ومواطنون بلا زيت، وحكومة تبيعنا البطيخ وتتركنا نعطش.

وفي هذا المشهد العبثي، لا يسعنا إلا أن نستحضر قول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل: “واحدة من أكبر مآسي الإنسان أن الأغبياء واثقون تمامًا من أنفسهم، بينما الأذكياء يملأهم الشك.”
ولعل أخطر ما في فشل السياسي، أن يواصل مشروعه بالحماس ذاته، دون أن يدرك أصلًا أنه فشل.

ومن باب التذكير، لا التحذير، نقول: الإفراط في الثقة يُفضي إلى التهور، والتمادي في التجاهل قد يُنهي ما تبقّى من تماسك. فالمغاربة، وإن كانوا صبورين، لا يقبلون أن تُختبر قدرتهم على التحمل إلى ما لا نهاية.
وكما نقولها بالعامية: للصبر حدود…

المقال التالي