الوطن جميل.. على كُتيب الإشهار فقط!

في عز الصيف، وبينما تزدحم شواطئ الضفة الشمالية بأبناء الجاليات، بدت شوارع طنجة والدار البيضاء وأكادير وكأنها تستعد لمسلسل من حلقات “غياب غير مبرر”. فلوحات التسجيل الأجنبية، تلك التي كانت توصف بـ”راية العودة”، غابت عن المشهد المغربي هذا العام، وكأن أصحابها اختاروا أن يرسِلوا اشتياقهم عبر حوالة بنكية بدل أن يتحملوا مشقة القدوم.
مغاربة المهجر، الذين طالما كانوا يُلقّبون بـ”كنز الصيف”، باتوا اليوم أمام معادلة مستحيلة: تذكرة طيران بأربعة أرقام، كراء شقة بسعر جناح رئاسي، وسيارة بـ”عداد مفتوح على جيبك”. كما تقول إحدى العائدات المترددات: “المغرب صار وجهة سياحية ممتازة… لو كنت مليونيراً بلا ذاكرة”.
ولا يتوقف الأمر عند الطيران، فحتى على الأرض يبدو أن المفاجآت تبدأ عند توقيع العقد ولا تنتهي حتى لحظة المغادرة. زائرة أخرى كشفت أن السعر المُعلن لكراء السيارة هو 300 درهم، لكن “بعصا سحرية”، يتحول إلى 1000 درهم. وقد تكتشف لاحقاً أن السعر لا يشمل الهواء في العجلات ولا رخصة تشغيل الراديو.
المشكلة لا تكمن فقط في الغلاء، بل في ما يشبه “فن تسعير الخواص”. فالقاعدة الذهبية أصبحت: كل من يتحدث بلغة أجنبية يدفع بلغة أخرى… لغة لا تُترجم إلا إلى دراهم مضاعفة وخدمة مقسومة على اثنين.
هذه الشكاوى لم تعد ترفاً، بل مادة دسمة لمنصات التواصل الاجتماعي التي تحوّلت إلى دفاتر ملاحظات جماعية. البعض يتساءل: هل فعلاً يستحق المغرب هذا الكم من الحنين؟ أم أن الوطن بات مشروعاً موسمياً للربح السريع، تنتهي صلاحيته مع نهاية غشت؟
الطريف ـ أو المحزن، حسب زاوية النظر ـ أن مقيمين في المغرب أنفسهم بدأوا يقارنون بين “العرض المحلي” و”البدائل الخارجية”. فحسب أحدهم، يمكنك في تركيا أن تحظى بفندق نظيف، شاطئ نظيف، وابتسامة حقيقية، مقابل نفس المبلغ الذي تدفعه هنا لتُعامل كأنك تسلّمت ميدالية لكونك زبوناً لا يُجادل.
وفي غياب هيئات رقابة فعالة، يبدو أن السوق المغربي اختار طريقاً خاصاً نحو “التضخم الفني”، حيث تُنقَص الكمية، وتُخفَض الجودة، وتُرفَع الأسعار، وكل ذلك بـ”خفة يد” لا تستحق حتى برنامج خدع بصرية.
أما المبادرات المدنية، فهي لا تزال تقوم بدور “الشاهد في جنازة الأسعار”، ترصد، توثّق، وتندد، لكن دون أن تُفعّل بند العقوبات أو تطلق صافرة الإنذار الجدية.
وهكذا، فإن هذا التراجع في حضور مغاربة العالم لم يعد فقط شأناً سياحياً، بل مؤشراً على علاقة بدأت تفقد دفئها. من اعتاد أن يعود بعاطفة، قد يكتفي في الغد بالتحويل البنكي. ومن كان يملأ البلاد حضوراً، صار يملأها غياباً. فهل يدرك صناع القرار أن الوطن لا يُدار مثل موسم بيع وشراء؟ وأن الحب لا يُقاس بسعر الليلة في شقة مفروشة؟
صيف 2025 قد يكون صيف الانفصال العاطفي الأول. والمفارقة أن الوطن، رغم اتساعه، بات ضيقاً على من يحبونه أكثر من غيرهم.
تعليقات