آخر الأخبار

لطيفة رأفت: خفة الرجل كتجيب الذل

العدالة لا تُصنع أمام الكاميرات، ولا تستمد مشروعيتها من شهرة الأشخاص، بل من قوة القانون وهيبة المحكمة. وكل تصرف يعبث بهذه المبادئ، عن وعي أو عن جهل، لا يُسيء فقط لصورة القضاء، بل يُضعف الثقة فيه ويمسّ بمكانة المغرب كمؤسسة قانونية قائمة على الاستقلال والنزاهة، طبقًا للباب السابع من دستور المملكة.

هذا ما أثبتته الواقعة التي أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط القانونية والإعلامية، عقب الحضور المفاجئ للفنانة المغربية لطيفة رأفت إلى جلسة محاكمة المتهمين في ما بات يُعرف إعلاميًا بـ”إسكوبار الصحراء”، دون أي استدعاء قضائي أو صفة قانونية تُخوّل لها ذلك.

هذا الحضور غير المبرمج سرعان ما تحوّل إلى ما يشبه عرضًا إعلاميًا، بعدما أدلت الفنانة بتصريحات أمام عدسات الكاميرات، في خرق واضح لأعراف التحفظ والحياد، خصوصًا أن الجلسة كانت قضائية وتخص ملفًا حساسًا. ما وقع بدا أقرب إلى حملة علاقات عامة منه إلى مساهمة جادة في تحقيق العدالة.

المعطيات تؤكد أن لطيفة رأفت لم تتوصل بأي إشعار رسمي بالحضور يوم أمس الأربعاء، بل سبق لها أن تغيّبت عن دعوة المحكمة بدعوى عدم التبليغ. ورغم ذلك، اختارت أن تظهر فجأة في المحكمة وتدلي بتصريحات خارجة عن السياق القضائي. هذا السلوك يثير تساؤلات حول احترام الإجراءات وحدود تدخل الشخصيات العامة في مسار العدالة.

فالمحكمة، بصفتها سلطة مستقلة دستوريًا، لا تفتح أبوابها لأي طرف دون سند قانوني. ووفق المادة 325 من قانون المسطرة الجنائية: “يُستدعى الشاهد للمثول أمام المحكمة بأمر صادر عن الهيئة القضائية”. وبالتالي، لا تُقبل أي شهادة إلا ضمن إطار قانوني واضح، يضمن جدواها ومطابقتها للمساطر المعتمدة.

تصريحات الفنانة التي قالت فيها: “شهادتي لن تغيّر شيئًا”, لم تمر دون ردود فعل. فقد اعتبرها كثيرون تدخلاً غير مشروع في عمل القضاء، وتنصيبًا للنفس محل القاضي، الذي له وحده صلاحية تقييم ما إذا كانت الشهادة ستغير شيئًا أم لا. بل إن مثل هذه التصريحات قد تُشكّل وسيلة ضغط غير مباشر على الرأي العام أو على المحكمة، وهو ما يُعد إخلالًا بمبدأ استقلالية القضاء.

وتزداد خطورة هذه التصرفات حين تصدر عن شخصيات عمومية لها تأثير واسع. فالمحكمة ليست ساحة لتبادل التصريحات أو تصفية الحسابات الإعلامية، بل فضاء تُحتَرم فيه الإجراءات وتُضمن فيه شروط المحاكمة العادلة. وأي خروج عن هذا الإطار يُضعف ثقة المواطنين في المؤسسة القضائية.

حتى وإن قررت المحكمة لاحقًا الاستماع إلى لطيفة رأفت كشاهدة، فإن ذلك لا يمنحها الحق في التعامل مع الشهادة كـ”مبادرة تطوعية” أو “موقف رمزي”، بل يجب التعامل معها كواجب قانوني نابع من احترام سلطة القضاء. فالمؤسسة القضائية لا تحتاج إلى مجاملات، بل إلى التزام مسؤول يراعي حساسية الملفات المعروضة.

ظهورها أمام الكاميرات بتلك الطريقة، وكأنها تبرعت بشهادتها، عكس استخفافًا واضحًا بالإجراءات القضائية. وهو ما يُعيد إلى الأذهان المثل المغربي البليغ: “خفة الرجل كتجيب الذل”، في إشارة إلى أن التصرفات غير المحسوبة قد تجرّ على صاحبها نتائج لا تُحمد عقباها.

التأثير السلبي لمثل هذه السلوكيات لا يقتصر على صورة القضاء فحسب، بل يمتد إلى الضحايا، والمتهمين، والرأي العام. ويُحوّل المحاكمة من مسار لتحقيق العدالة إلى عرض جانبي يُشوّش على الحقيقة ويضرّ بهيبة المؤسسات.

وإلى حدود الساعة، لم يصدر عن الفنانة أي توضيح رسمي بشأن دوافع حضورها المفاجئ أو مغزى تصريحاتها، وهو ما يزيد من ضبابية هذا التصرف في نظر الكثيرين.

وما قامت به لطيفة رأفت، بوعي أو من دونه، فيه الكثير من “خفة الرجل”، بل والكثير من “خفة العقل” أيضًا.

المقال التالي