الدكتور لشهب يكتب : تصحيح صورة الأمن الوطني في مخيال وتمثلات المجتمع المغربي!

نورالدين لشهب
من خلال زيارة مدينة الجديدة لحضور الذكرى 69 لتأسيس الأمن الوطني، وذلك بدعوة من السيد المدير العام للأمن الوطني، يبدو أن هناك تغييرا طرأ على صورة منظومة الأمن الوطني بالمغرب في السنوات الأخيرة، وهذه الصورة يشهد بها الكثير من المطلوبين للعدالة، فعندما يتم استدعاء أحد المواطنين للمثول أما الشرطة القضائية أو الفرقة الوطنية، وغالبا ما ينشر الاستدعاء على حاسبه في الفيسبوك، وبعد مثوله واستجوابه أمام الشرطة القضائية أو الفرقة الوطنية يخرج بانطباعات جد إيجابية على أفراد الشرطة الذين استمعوا له أو استجوبوه، في دلالة وضحة أن صورة الأمن تغيرت وتبدلت كثيرا في تمثلات المواطنين المغاربة.
الصورة السلبية التي التصقت بالأمن الوطني كونه جهازا للتعذيب والتنصت والتجسس (بالمفهوم السلبي للتجسس) وأن صفة البوليسي هي البولسة والتبولس، ومهنة البوليسي لها مدلول قدحي، وإذا أراد شخص أن يهين شخصا آخر يسمه كونه “بوليسيس” فيقول له: بركا من التبوليس، وخلينا من التبوليس..، فهذه العبارة كانت تحمل كل المعاني السلبية، فالشخص البوليسي وفق هذه العبارات هو إنسان لا يستحق أن تتعامل معه بحميمية وإنسانية لأنه هو أصلا عديم الإنسانية، هدفه واستراتيجيته أن يسيء للمواطن وليس خدمتهم، أن يسمع للمواطن ليس بنية مساعدته بل من أجل توريطه ومعرفة نواقصه وزلاته وأخطائه، هو ينظر للإنسان باعتباره متهما وليس كمواطن إنسان عاد له أخطاؤه كما له حسناته.
هذه الصور السلبية لم تعد ملتصقة بمهنة رجال الأمن، بل أصبحت اليوم تُناط برجال السياسة من أحزاب ونقابات وجمعيات وجماعات، وأصبح المجتمع المدني السياسي لا يتواصل وبالتالي لا يساهم في التنشئة السياسية والثقافية والتربوية للمجتمع، بل أصبح يقوم بأدوار غايتها وهدفها التحكم في النقابة والحزب والجمعية والجماعة وتوجيه المجتمع من خلال هذه الإطارات، هدف الزعيم هو الزعامة والرياسة والتي لا تتحقق له إلا عن طريق ثقافة النميمة والتجسس وقمع الأصوات المزعجة وتهميشها ونشر الإشاعات عنها، كأن نسمع: هذا بوليسي، هذا خائن، مرتد، كافر، زنديق، مفتون، وهلم جرا من الاتهامات من أجل بسط السيطرة للزعيم الأوحد، وقديما قال ابن المبارك (رجل صوفي من أهل التربية والتزكية): ومن أحب الزعامة بغى وطغى وتتبع عيوب الناس ولا يحب أن يذكر عنده الناس بالخير.
الملاحظ أن صورة رجل الأمن قد تغيرت وتبدلت بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، رجال الأمن شباب مغاربة وليسوا وحوشا جاءت من عالم آخر وسقطت في البيئة المغربية، رجل الأمن أصبح مهنيا يخشى على سمعته أمام الناس وأمام الإدارة العامة بالرباط، أصبح يعلم أن الأمن مهنة تمارس بأصولها المهنية ومبادئها القائمة على تعليم وتربية وأخلاق المهنة، فالكثير منهم يعلمون أن الإدارة لا تتسامح مع انزلاقات أو أخطاء مقصودة تتغيا الإضرار بشخص مواطن بصرف النظر عن قناعاته وهواه ما دام يحترم القانون.
من خلال زيارتي لمدينة الجديدة للمركب الذي احتضن الحفل، ترى رجال الأمن هنا وهناك، شباب وشابات، تشعر أنهم يشتغلون بحرية، بمعنى وكأنهم لا يشعرون بتراتبية، لا يمكن أن تفرق بين الرئيس والمرؤوس، يبتسمون في وجوه الزائرين: هل أنت سيدي ضيف السيد مدير العام؟ نعم، مرحبا تفضل، وجوه الشباب والشابات يعلوه ابتسامات غير متكلفة، ابتسامات نراها ونشعر بها أنها طبيعية وليست مصطنعة، شباب وشابات تشعر أنهم أبناؤنا وإخواننا نلتقيهم بعد طول غياب، يشعرونك أن هذه المؤسسة ليست لهم وحدهم بل هي ملك لكم للمغرب والمغاربة، نحن كلنا نتعاون ونتكامل من خلال هذه المؤسسة التي هي أيضا تملك طاقات هي نفسها موجودة في المجتمع، خريجون من جامعات، مثقفون ثقاقة العصر، يتحاورون، يتكلمون، يدققون ويصححون ويتناصحون.
ماذا تغير في الأصل؟
الذي تغير هو الثقافة التواصلية، وثقافة التواصل لا يتقنها إلا من له كفاءة وله إنجاز، وظهر أن إدارة الأمن لها كفاءة وإنجاز تنزلتها منزلة في التواصل الإنساني المنفتح المبدع الذي يستطيع أن يحتوي (نظرية الاحتواء).
وأحسب أن ثقافة التواصل ناجمة عن تحرير الطاقات الموجودة في إدارة الأمن، والتحرير لا يكون إلا بزرع الثقة في العنصر الأمني، عندما أصبح رجل الأمن حرا حرية مسؤولة تؤطرها الأخلاق المهنية يصبح عنصرا تواصليا فعالا وحيويا.
وهذه الثقافة التواصلية التي غيرت من صورة رجال الأمن في تمثلات ومخيال المغاربة جميعيهم تعود إلى شخصية المدير العام للأمن الوطني، وقد تصبح روح عمل وفلسلفة ستعذب من سيأتي بعده بعد عمر مديد بحول الله.
فلسفة أو نزعة أو تيار جديد مجدد تجديدي في تاريخ الأمن الوطني مرتبط بشخص المدير العام، هي نزعة جديدة جعلت الناس المتابعين تنسى المدراء الذين مروا على إدارة الأمن الوطني، نقرأ أسماءهم ونسمع بها ولكن لا نكاد نسمع بأثرهم أو شيئا جديدا أبدعوا فيه وميزهم عن غيرهم.
على عكس المدير العام الحالي الذي أسهم، برأيي، في تغيير صورة رجل الأمن في تمثلات ومخيال المواطن المغربي، وذلك عبر الثقافة التواصلية التي تم ترسيخها، والتواصل هنا ليس لغة إنجازية وحسب كما يذهب البعض، بل هو ثقافة تعكس مشروعا ومذهبا وتيارا ونزعة ورؤية Vision لعلاقة رجل الأمن بمحيطه الاجتماعي الذي يعيش فيه، ويشتغل فيه، وينتج فيه، بمعنى تحويل العمل والاشتغال ليس كمهنة أو حرفة وحسب، بل إلى متعة يشعر بها رجل الأمن وهو يمارس مهامه، يبدع عندما يصبح فاعلا حرا من داخل مؤسسته، فاعل يفعل وينفعل ويتفاعل، هنا نصبح إزاء ما يمكن أن نسميه بـ”التواصل الفعال” على المستوى الأفقي الذي يعضده التواصل العمودي التراتبي، لأن هذا التواصل العمودي يشجعه ولا يقيده، وهذا يعود إلى شخصية المدير العام.
بالنسبة للحضور الذي حضر الذكرة 69 بمدينة الجديدة فهو نوعي، لاحظنا حضور شخصيات أخرى لها نفس نقدي ولكنها كانت حاضرة وهو ما أثار استغراب البعض، وكأن هؤلاء المستغربين يعتقدون أن إدارة الأمن الوطني والدولة وشخص المدير العام ملك محفظ لهم، وأن الآخرين المختلفين يعيشون في دولة أخرى أو قارة أخرى!
وبصراحة أرى أن إدارة الأمن الوطني أصبح بإمكانها أن تنفتح على جميع الحساسيات السياسية والحقوقية وترسل لهم دعوة باسم لإدارة الأمن الوطني، وأن تنفتح بتواصلها على الجميع، لأن إدارة الأمن الوطني مؤسسة ملك لجميع. المغاربة، وإن لم يحضر أحدهم سيكون مهما من حيث ثقافة التواصل، لأن الهدف هنا يبقى في إطار ترسيخ الروح التواصلية، والحضور من عدمه ليس امتيازا لأحد بقدر ما هو انفتاح المؤسسة أولا على الجميع وفق ثقافة مغربية راسخة في الحياة الاجتماعية المغربية تتغيا المؤسسة ترسيخها في علاقة الأمن بالمجتمع.
ذلك أن ثقافتنا المغربية مشبعة بروح التواصل، مثلا نحن نتخاصم كعائلات وجيران وتقع قطيعة، ولكن عندما يكون هناك احتفال بعرس/ زواج الأبناء على سبيل المثال يتم توجيه دعوة إلى الخصيم، وبهذه الدعوة تتجدد أواصر العلاقات الإنسانية ويتم استئنافها، وكذلك الأمر في جميعالمناسبات الاجتماعية، وفي الاثر النبوي: أجب من دعاك!
أعتقد، والله أعلم، أن المدير العام يحاول ترسيخ ثقافة التواصل في الإدارة من خلال الموروث الثقافي والديني للمغاربة، لأنه هو أصلا ابن الشعب المغربي الأصيل في ثقافته المتفردة الراسخة، درس في المغرب واشتغل في المغرب وترقى في المغرب، وبقي محافظا على أصوله المغربية الراسخة على الصعيد السوسيولوجيوالأنثربولوجي والتاريخي.
تعليقات