باكالوريا الغش والتكنولوجيا: تآكل القيم في زمن “العدسة” الذكية

بينما يخوض آلاف التلاميذ امتحانات الباكالوريا في مختلف ربوع المغرب، تتكرر سنويًا مشاهد مقلقة تُضعف الثقة في المدرسة العمومية وفي منظومة التقييم برمّتها. الجديد في هذه الدورة ليس فقط تسجيل حالات غش متفرقة، بل سقوط شبكات منظمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كما هو الحال في أكادير، حيث تم تفكيك خلية من ثمانية أفراد، أو في الحسيمة حيث ضُبطت أجهزة إلكترونية متطورة أبرزها ما يُعرف بين التلاميذ بـ”العدسة”.
هذه “العدسة”، وهي سماعة دقيقة في حجم حبّة عدس، تُدخل في الأذن وتُربط لاسلكياً بهاتف نقال أو بشريحة ذكية، تسمح بنقل الأجوبة من طرف شخص خارج أسوار المؤسسة. وتكتمل حلقة الغش بتسريب مواضيع الامتحان بعد دقائق من بدايته، فيسبح الفضاء الرقمي في سيل من الحلول والصفحات المجهولة المصدر.
غير أن ما كان يُعتبر مجرّد تحايل تقني سرعان ما تحول إلى خطر صحي، بعد تسجيل حالة طبية بأكادير استدعت تدخلاً جراحياً لاستخراج “العدسة” من أذن أحد التلاميذ، ما يفتح النقاش من جديد حول المخاطر النفسية والجسدية التي يضع فيها بعض التلاميذ أنفسهم في سبيل الظفر بشهادة لم يُكتسب مضمونها بالاجتهاد، بل بالحيلة.
السؤال المؤرق هنا لا يتعلق فقط بوسائل الغش، بل بجذوره: لماذا تتفشى هذه الظاهرة بين تلاميذ المدرسة العمومية بشكل أكبر مقارنة بنظرائهم في التعليم الخصوصي؟ بل إن البعض من هؤلاء، كما تُظهره شهادات علنية، لا يتورّعون عن الافتخار بممارساتهم أمام الكاميرات، في مفارقة مؤلمة مع المفهوم الأساسي للمدرسة كفضاء للقيم، للجدية، وللمسؤولية.
هل تعاني المدرسة العمومية من أزمة ثقة؟ أم أن ضعف التأطير، وغياب التحفيز، وتراكم الإحباط لدى التلاميذ في ظل محدودية الأفق بعد التخرج، كلها عوامل تدفعهم إلى اعتبار النجاح “الشكلي” حلاً وحيدًا للهرب من واقع متعثر؟
إن مسؤولية وزارة التربية الوطنية لا تقف فقط عند تأمين مراكز الامتحان ومطاردة صفحات الغش، بل تمتد إلى عمق السياسات التربوية التي تُفترض أن تعيد الاعتبار لقيمة العمل والمثابرة. غياب مشاريع بيداغوجية متجددة، وضعف التنشيط المدرسي، وانعدام الاستشارة النفسية داخل بعض المؤسسات، كلها فجوات تُركت مفتوحة لتملأها شبكات الغش والمحتالين.
ولا يمكن فصل هذا الواقع عن التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل من التلميذ في المدرسة العمومية أقل ثقة في قدرته الذاتية، وأكثر استعدادًا للانجرار وراء مسارات ملتوية، تُغذّيها ثقافة النجاح السريع بأي وسيلة.
ظاهرة الغش لم تعد فعلاً فرديًا عابرًا، بل مؤشراً على أزمة أعمق في منظومة التعليم العمومي. ومواجهتها لا تكون فقط عبر التشديد الأمني أو الرقابي، بل عبر ترميم العلاقة بين التلميذ والمدرسة، وإعادة بناء منظومة تحفيزية عادلة وشاملة، تُقدّر الجهد وتحمي الكرامة وتُعيد للتعليم مكانته كمصعد اجتماعي حقيقي.
إذا كنا نطمح إلى تعليم عمومي منتج وعادل، فإن أول خطوة يجب أن تبدأ بإعادة الاعتبار للنزاهة، وغرسها لا في الامتحانات فقط، بل في يوميات الحياة المدرسية كلها.
تعليقات