حكومة الائتلاف الوطني لتنظيم المونديال

2/3- ولي العهد.. فاعل دستوري يدخل على الخط
مراد بورجى
أعرف أن عنوان هذا المقال، وهو الجزء الثاني المتعلّق بـ”حكومة الائتلاف الوطني لتنظيم المونديال”، سيثير لدى من يعنيهم الأمر أكثر من سؤال، خصوصا مع التحفّظ السائد في الساحة السياسية، والحزبية منها بالخصوص، التي تضع “ولاية العهد” ضمن الطابوهات، في وقت تحتاج البلاد إلى نزع “الطابوهات” مثلما نزعت “القداسة”، بأفق بِنائي يغذّي حاجة المغاربة إلى النقاش العمومي…وفي غمار هذا الإشكال، سينتبه الكثيرون إلى أن فاعلا أساسيا ومحوريا في النظام السياسي المغربي مازال، إلى الآن، خارج حسابات المتسابقين في الانتخابات المقبلة، وهو ولي العهد الأمير مولاي الحسن، الذي يعتبر اليوم الحاضر الغائب الأكبر في صنع المرحلة!!! ثم سينتبه هؤلاء الكثيرون إلى أن معرفتهم بشخصية ولي العهد تكاد تكون شبه منعدمة خارج معطيات بعض التقارير الإعلامية، وبعض البروفايلات، التي تغلب عليها الإنشائية، مؤثّثة بمعطيات معروفة ورسمية تابعها المشاهدون على شاشات تلفزيونات الدولة!!!
وعلى التو، تحضرني في الذاكرة مقارنة سريعة بين عهدين: عهد الملك الراحل الحسن الثاني، لم يكن أحدٌ، آنذاك، يعرف شيئا ذا بال عن “سميت سيدي” ولي العهد سيدي محمد وعن رفاقه الأقربين، إلى أن تولّى المُلك، فبدأ المغاربة يتعرّفون على وجوه جديدة من المسؤولين السامين هم فريق دراسة وطفولة وشباب الجالس على العرش اليوم الملك محمد السادس، وهم، اليوم كذلك، مُعدّو مرحلة المُرور السلس لحكم ولي العهد الأمير مولاي الحسن غدًا.
واليوم أيضا، كثيرون لا يعرفون شيئا ذا بال عن ولي العهد الأمير مولاي الحسن وعن توجّهاته ورؤيته لما يجري ويدور ولما يتطلّع إليه في المستقبل المنظور، خصوصا أن ولي العهد عاش، قبل سنتين، نقلة نوعية في حياته اقترنت باحتفاله بالذكرى العشرين لميلاده، التي حرّرته من مجلس الوصاية، الذي بقي يلازمه حتى بعد تجاوزه سن الرشد (18 سنة) إلى أن يبلغ عمره تمام السنة العشرين، طبقًا لمقتضيات الفصل 44 من الدستور المغربي، بكل ما يعني “التحرّر من مجلس الوصاية” من آفاق رحبة تحرّره من المسؤولين السامين أعضاء المجلس، الذين يشكلون، بالنسبة إليه، إرثا قديما يدبّر “الحكم”بأساليبه القديمة، والمقصود هنا تلك الوجوه المرتبطة بـ”الحكومة التنفيذية”، وبرئيسها عزيز أخنوش! لنستحضر جيدا أن ولي العهد، عندما بلغ سن التخلّص من مجلس الوصاية (يوم 8 ماي 2023)، بدأ بمهام عسكرية ثم انخرط في القيام سياسية واجتماعية واقتصادية وختاماً بالديبلوماسية التي قادته لاستقبال رئيس دولة عظمى مثل الصين.
قبل خمس سنوات في يوم الاثنين 08 يوليوز 2020، كان لولي العهد مولاي الحسن أول حضور لمجلس وزاري. ومنذ ذلك الحين، لا يُمكن ألا يكون ولي العهد مولاي الحسن قد كوّن فكرةً عن التسيير الحكومي، وراكم خبرةً في التدبير والاحتكاك المباشر بالطبقة السياسية، لقد كان الأمير يحضر ويرى ويسمع ويتتبّع ما كان يُقال في مجالس وزارية في عهد حكومة كان يترأسها إسلاميون، وهو يحضر اليوم ويرى ويسمع ويتتبّع ما يقوله، في مجلس وزاري، وزراءُ حكومةٍ يترأسها رأسماليون، يترأسهم الملك محمد السادس، الذي “سئم” التعامل مع معظمهم، مجالس وزارية تحوّز الأمير الشاب على ملفاتها، ويشتغل، إلى حدود اليوم بصمت، بفريقِ أكفاء، وكذا ذوي خبرات وكفاءات متعددة ومتنوعة من ديوان والده، ويتابع أدق التفاصيل عن الحياة العامة في البلاد، بما في ذلك أساليب اشتغال حكومة أخنوش، وتوضع أمام مكتبه كل التقارير عن التحالف الحكومي وعن أحزابه الثلاثة وما يفعله قادتها في منخرطيها، وعن الحكومة وعن رئيسها وأعضائها وعن أعطابهم، ومن المؤكّد أن ولي العهد توصّل بمسودة تعديل حكومة أخنوش، التي اطّلع عليها الملك عندما كان في باريس يحضّر مع الرئيس الفرنسي وفريقه كل تفاصيل الاتفاقيات الاثني والعشرين، التي سيوقّع عليها المغرب وفرنسا عند زيارة ماكرون الشهيرة للرباط، حيث كان وزراء أخنوش يوقّعون على أوراش لا يعلمون عنها شيئا، كيف دُرست وروجعت وعُدّلت ودُقّقت قبل أن تأخذ شكلها الجاهز للتوقيع وللانخراط الفاعل في عمليات التنزيل، ومن المؤكد كذلك أنه ليس صدفةً أن يغيب ولي العهد عن تعديل أخنوش الحكومي، أو ما بات يطلق عليه المغاربة اسم “حكومة موروكو مول”…
هذا المعطى مهم جدا، سنعود إليه في الجزء الثالث من المقال، على أساس أن نتحدّث، هنا، عن فارق مهم بين العهدين: في العهد السابق، ظل الملك الراحل الحسن الثاني حريصا، ما أمكن، على إبعاد ولي العهد عن دهاليز الحكم ومكر السياسة وخبايا التدبير وأسرار القصور، حتى لا تكون له أي يد في سنوات الرصاص، إلى درجة أن فؤاد عالي الهمة وصف بداية العهد الجديد بكثير من الرهبة حتى أنه قال: “عندما مات أبونا الحسن الثاني وجاء أخونا محمد السادس (تْلَحنا فالبحرْ)”، لكن الفريق الجديد بقيادة ملك جديد سرعان ما تمرّس على الحكم، وجاء بأفكار جديدة وغذّى لدى المغاربة تطلعات وآمالا جديدة، بجيل جديد من الإصلاحات المجتمعية الكبيرة، وبعضها يمكن أن توصف، ودون مبالغة، بأنها ذات حمولة إصلاحية عظيمة، من قبيل تجربة الإنصاف والمصالحة المغربية…
في العهد الحالي، الوضع مختلف، لوحظ أن الملك محمد السادس يتعامل بأسلوب تشاركي مع ولي العهد الأمير مولاي الحسن، يتابعه في الشاذة والفاذّة مع هامش مهم من حرية الحركة، شبيهة بالرقابة البعدية، ورهانُها أقرب إلى الحرية والمسؤولية، بخلاف الرقابة القبلية، التي كان يتعامل بها معه والده الملك الراحل الحسن الثاني…
معنى ذلك أن هذا الفاعل الدستوري المحوري المهم، مولاي الحسن، لا يمكن أن يبقى بمنأى عما يجري في البلاد، أخذا بالاعتبار أن لكل زمن رجاله ونساؤه، كما قال الملك نفسه… وولي العهد يرمز اليوم إلى جيل جديد، “جيل 2026″، بعقليات وأفكار جديدة وبخبرات وكفاءات ومقاربات مغايرة، جيل يُدفع به، من الآن، إلى تحمّل مسؤولياته التاريخية، بالشروع في القيام بمختلف المهام السياسية والاقتصادية والاجتماعية الملحّة، خصوصاً أن هذا الجيل لصيق بالتطوّرات الرقمية وبوسائط التواصل، التي خبر من خلالها فضائح السياسة والسياسيين وعلى رأسهم الأغلبية الحكومية، ولذلك لا يمكن تصوّر أن بصماته ستغيب عن تحوّلات وتمظهرات المرحلة المقبلة، الموسومة بـ”حكومة الالتزامات”، التي تعهّد بها الملك، وليست الحكومة، لتنظيم المونديال… والسؤال هو: كيف ستكون طبيعة هذا الحضور وهذه البصمة؟
انتخابات 8 شتنبر 2021: فوز الفساد والغلاء بالاستقواء بالترحال السياسي
ماركوتينغ “تستاهلْ أحسنْ”، مارس بها أخنوش عملية تغرير بالناخب ببرنامج انتخابي مهزوز مزدوج الأركان: الأول كاذب غير قابل للتطبيق، أما الثاني فلا يكف فيه عن الاختباء وراء القصر والركوب على البرنامج الملكي، سواء في ما يتعلّق بتنزيل النموذج التنموي، أو بالمشاريع الملكية الكبرى… لكن عند الممارسة، في ثنايا التدبير، نجد أن حكومة أخنوش قدّمت للمغاربة المعنى الحقيقي لليبيرالية المتوحّشة، التي ضيّقت الخناق على الطبقتين الوسطى والصغرى، وشرعت ترمي بهما إلى القاع وتوسّع بهما دائرة الفقر، وعمّقت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، وتأتي الطامة الكبرى، التي حوّلت السلطة التنفيذية إلى “حكومة التطبيع مع الفساد”، وقّعها عزيز أخنوش بالاسم والصفة، وبَصمتْ معه عليها فاطمة الزهراء المنصوري ومعها صهرها نزار بركة، لتُوزّع “التركة” على “الفئة المحظوظة”، وكان لهذا “التطبيع”أثر أقوى على المغرب وعلى المغاربة، فقد تسرطن الفساد والإفساد المفضوح، واستفحلت مظاهر الزبونية والريع، فتعدّدت ملفات الفساد في محاكم جرائم الأموال، وتضاعف المسؤولون المتابعون بشبهات الفساد، وأغلب هؤلاء المتهمين من صفوف أحزاب التحالف الحكومي الثلاثي، وترافقت هذه الملفّات مع تعدّد وتنوّع واتساع مختلف مظاهر التعسّف والقهر والغلاء، والحصيلة: تدابير حكومية لاشعبية تزيد في تسمين الأغنياء وفي تجويع الفقراء وتُغرق البلاد في المديونية مع مسلسل من التراجعات في شتّى المجالات!
انتخابات 2026: أحزاب بلا برنامج خارج البرنامج الملكي
الخلاصة الجوهرية اليوم هي أن هذه الأحزاب لا تتوفر على برنامج حكومي فعلي، وهي نفسها التي تؤكد أنها أصبحت تنفذ البرنامج الملكي، خاصة بعد اعتماد النموذج التنموي الذي صادق عليه الملك يوم 25 ماي 2021، وقد تضمّن التقرير الذي أعدته اللجنة المختصّة العديد من القضايا ذات الطابع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي والثقافي، ويقترح عددا من السياسات العمومية والآليات التنظيمية والإجراءات التنفيذية لتحقيق الأهداف المسطرة في مختلف المجالات المعنية… وذلك ما تستحضره الأحزاب، خصوصا منها الأحزاب التي تتصدّر تدبير الشأن العام… فهل يمكن لحزب من هذه الأحزاب أن يستطيع الخروج من عباءة هذا النموذج التنموي الشامل، والأوراش الملكية المفتوحة، بالإضافة إلى أوراش تحيين المغرب لاحتضان المونديال التي عُهد بها لوزيري السيادة “التقنيين” عبد الوافي لفتيت وفوزي لقجع، وهنا مربط الفرس، وهو أن برنامج 2026-2030 هو برنامج ملكي صرف، لا يد لحزب فيه، سوى العمل على التنزيل فقط!
في المغرب، كما في كل الدول التي تعتمد الديمقراطية التعددية، يعرض الحزب السياسي برنامجا انتخابيا على الناخبين، وإذا ما اقتنعوا به، يبوِّئُونه الصدارة ليعمل على تنفيذ برنامجه، وهذا هو المبدأ، الذي أسست عليه لجنة مراجعة الدستور مقتضيات الفصل 47 من دستور 2011، وضمنها فقرته الأولى التي جاءت بهذه الصيغة: “يعين الملك رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها”… في غياب البرامج الانتخابية، هذا المقتضى الدستوري لا يقيّد يد الملك في اختيار “شخص حزبي معيّن” (أمين عام مثلا)، بل إن هذا المقتضى لا يحصر عملية التعيين في الحزب الفائز بالانتخابات، بمعنى أن أمام الملك عدّة “اختيارات”، نبّه إليها بلاغ الديوان الملكي القاضي بإعفاء بنكيران، إثر “حادثة البلوكاج المُفتعلة”، عقب انتخابات 2016، والتي “فجّرت” جدلا كبيرا حول قراءة الفصل 47 من الدستور المتعلّق بتعيين الملك لرئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر الانتخابات، وليس بالضرورة الأمين العام للحزب حسب منطوق النص، حين شدّد بلاغ الديوان الملكي على أنه “بمقتضى الصلاحيات الدستورية للملك، بصفته الساهر على احترام الدستور وعلى حسن سير المؤسسات، والمؤتمن على المصالح العليا للوطن والمواطنين، وحرصا منه على تجاوز وضعية الجمود الحالية، فقد قرر أن يعيّن، كرئيسِ حكومةٍ جديدٍ، شخصيةً سياسيةً أخرى من حزب العدالة والتنمية”، ليستدرك موضّحا بدلالات قصدية أن “الملك محمد السادس فضّل أن يتخذ هذا القرار السامي من ضمن كل الاختيارات المتاحة التي يمنحها له نص وروح الدستور”، حدث هذا في ظرفية قدّم فيها حزب العدالة والتنمية برنامجه في انتخابات 2011، وبرنامجه في انتخابات 2016، ورغم ذلك، فقد فتح الفصل 47 أمام الملك أكثر من اختيار، فما بالك اليوم، والأحزاب التي ستخوض الانتخابات المقبلة، بدون برنامج خارج برنامج وأوراش القصر؟!
ولمزيد من توضيح هذه الخلفية الدستورية، لابدّ من العودة للتذكير بما قاله وقتها الباحث المغربي محمد الطوزي، أحد أبرز أعضاء اللجنة الملكية الاستشارية، التي راجعت دستور 2011، إذ أبرز وقتها أن “ما سمي بـ(البلوكاج) يعتبر جزءا من اللعبة البرلمانية التعددية”، وزاد موضّحا “لا أقول الديمقراطية بل التعددية”، قبل أن ينبّه إلى الصلاحيات الدستورية للملك، التي تتيح له اختيار رئيس الحكومة من حزب آخر، معتبرا أن الفصل 47 من الدستور لا يُعتبر قاعدة قانونية آمِرة: (على الملك أن يعيِّن) أو مُلزِمة: (لابُد للملك أن يعين)، الأمر الذي يفتح أمام الملك أكثر من اختيار بعد إعفائه لبنكيران، و قال الطوزي وقتها إن: “الملك مسؤول أمام الله، وأمام التاريخ”، وخلُص الدكتور الطوزي إلى القول إن “من ينتج منظومة القيم، بما فيها الممارسة الديمقراطية، هو الملك والملكية والقصر”، لأن “الملكية، في المغرب، هي معيار السلوك الجماعي”، فالدستور، يضيف الطوزي، يعطي للملك حق تحديد التوجهات الاستراتيجية، إلى جانب الحكومة.
بمعنى أن قراءة مفتوحة ومرنة للفصل 47 تقدّم عدّة اختيارات متاحة أمام الملك:
– تعيين رئيس الحكومة في شخص الأمين العام للحزب الأول.
– تعيين رئيس الحكومة من الحزب الأول في شخص أي مسؤول خارج الأمين العام.
– تعيين رئيس الحكومة من الحزب الثاني أو حتى العاشر تمكّنَ من تشكيل تحالف أغلبي.
– تعيين رئيس الحكومة من خارج الحزب الأول، بواحدة من صيغتين: إما صبغ شخصية مستقلّة بلون الحزب الأول مثلما وقع مع عزيز أخنوش نفسه، وإما التفاف تحالف أغلبي من عدة أحزاب وراء شخصية مستقلة مثل ما حصل مع إدريس جطو.. وبصريح العبارة، يشرحالدكتور محمد الطوزي أن النص الدستوري “قابل لاحتواء الشيء ونقيضه”، وأن “تأويله الديمقراطي مرتبط أساسا بالفاعلين السياسيين”، وفي الحالة الراهنة، فإن ظرفية المونديال، ومشاريعها الكبرى المفتوحة، هي من وضع وإشراف الملك، فهي ليست مجرد برامج ظرفية، وإنما مؤطّرة بأوراش ذات طبيعة استراتيجية محددة في الزمان والمكان تُلزم الملك لأن يختار الأصلح لهذه المرحلة، وليس “المصائب”، التي جاء بها أخنوش في الصيغة الأولى، والتي جاءت بها زوجته بعد التعديل الفضيحة…
يتبع 3/3
تعليقات