آخر الأخبار

زكية الدريوش.. عندما يصبح المال العام “ملكية خاصة”!

في المغرب، لا يحتاج كشف أسرار تدبير المال العام إلى تحقيقات استقصائية معقدة أو وثائق مسربة، بل يكفي تصريح عفوي لمسؤول حكومي ليُفتح الباب على مصراعيه أمام فضيحة جديدة تُضاف إلى سجل سوء التدبير والإفلات من المحاسبة. هذه المرة، البطلة هي زكية الدريوش، كاتبة الدولة المكلفة بالصيد البحري، التي كشفت، دون أن تعي، عن كيفية توزيع المال العام داخل وزارتها وكأنه هبة خاصة تُمنح وفق الولاءات السياسية.

في مقطع فيديو انتشر بسرعة بين المغاربة، ظهرت الدريوش وهي تتحدث بفخر عن تخصيص دعم مالي قيمته مليار و100 مليون سنتيم لأحد زملائها في حزب التجمع الوطني للأحرار، بهدف إنشاء “مفرخة للرخويات”. نعم، الرخويات، تلك الكائنات البحرية التي يبدو أن الوزارة منشغلة بتربيتها أكثر من انشغالها بمعاناة آلاف الصيادين الذين يكافحون يوميًا وسط نقص المعدات، غياب الدعم الفعلي، واحتكار الثروات البحرية من طرف لوبيات نافذة لا ترى البحر إلا كمصدر للربح السريع.

أمام هذه الفضيحة، لم تتحرك وزارة الصيد البحري لتقديم أي تبرير، لم يصدر أي بلاغ رسمي، ولم يُفتح أي تحقيق يكشف كيف تم منح هذا المبلغ الضخم، ومن هي الجهة التي قررت أن مشروع “مفرخة الرخويات” يستحق كل هذا الدعم في وقت تعاني فيه البلاد من مشاكل اقتصادية خانقة؟ هل هناك دراسة جدوى حقيقية؟ هل خضع المشروع لتقييم من طرف خبراء مستقلين؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه استثمارًا داخليًا في “حظيرة المحظوظين” التي تنعم بامتيازات الدولة دون حسيب أو رقيب؟

المفارقة هنا ليست فقط في قيمة الدعم، بل في الطريقة التي يتم بها تدبير المال العام وكأنه ملكية خاصة للمسؤولين والسياسيين الذين يوزعونه فيما بينهم تحت غطاء “المشاريع التنموية”. فالمواطن العادي، الذي يُطالب في كل مناسبة بشدّ الحزام والتقشف، يرى أمام عينيه كيف تُنفق الأموال الطائلة في مشاريع غامضة لا تعود بأي نفع حقيقي عليه، بل تصب فقط في جيوب المقربين من مراكز القرار.

إن القضية هنا ليست مجرد رقم مالي، بل هي انعكاس لغياب الشفافية والمحاسبة داخل الحكومة. فلو كانت هناك مؤسسات رقابية مستقلة تقوم بعملها بجدية، لما مرت هذه الصفقات دون تدقيق، ولما وجد مسؤول حكومي الجرأة للحديث علنًا عن توزيع الأموال كما لو كان يتحدث عن هدايا شخصية. ولكن، في ظل مناخ سياسي حيث تُرفع شعارات النزاهة والشفافية بينما تُنفذ السياسات بمنطق الولاء السياسي، ليس غريبًا أن تحدث مثل هذه الفضائح دون أن يتحرك أحد لوقفها أو حتى مساءلتها.

اليوم، ييفشل مرة اخرى حزب التجمع الوطني للأحرار امام امتحانًا عسيرًا أمام الرأي العام، لقد أثبت أنه حزب لا يحترم شعاراته حول “الكفاءة وربط المسؤولية بالمحاسبة”، لقد رسّخ الصورة السائدة عنه كحزب يمزج بين المال والسلطة بطريقة تُضعف الثقة في العمل الحكومي.
وعلى وزارة الصيد البحري أن تدرك أن تجاهل هذه القضية لن يكون الحل الأمثل، لأن المغاربة أصبحوا أكثر وعيًا بمثل هذه التجاوزات، ولن يقبلوا أن تستمر الأموال العمومية في الانجراف نحو مشاريع لا تخدم سوى قلة قليلة ممن يتقنون فن الاستفادة من “ريع الدولة”.

ما حدث مع زكية الدريوش ليس مجرد زوبعة إعلامية عابرة، بل هو جرس إنذار يكشف أن المال العام في المغرب لا يزال يدار بمنطق الامتيازات الحزبية والمحسوبية بدلًا من أن يكون في خدمة المشاريع التي تعزز الاقتصاد الوطني وتخلق فرص عمل حقيقية. والسؤال الآن هو: هل سيُفتح تحقيق يكشف الحقيقة؟ أم ستنضم هذه الفضيحة إلى قائمة طويلة من الملفات التي يتم دفنها بسرعة تحت ركام الصمت الحكومي؟

المقال التالي