حسين مجدوبي.. المغرب كما تخيّلَه “الاستعراب” الإسباني

يُعرف حسين مجدوبي بصفته إعلامياً ومحلِّلاً جيوسياسياً، كما يُعرَف بإصداره مجموعة قصصية بعنوان “الوصية السابعة”، وهي من الأعمال اللافتة في أدب الهجرة المغربي باللغة العربية. وقد أصدر العديد من الكتب، منها: “سبتة ومليلية: التساؤلات والآفاق”، و”ما وراء المضيق: الانتقال الديموقراطي والعلاقات المغربية الإسبانية”، و”الربيع العربي: الثورة من أجل الكرامة في العالَم العربي” (بالإسبانية).

ناقش مجدوبي رسالة دكتوراه في التاريخ بـ”جامعة غرناطة”، ورسالة دكتوراه في علوم الإعلام بـ”جامعة مالقة”، وهي التي أصدر بعضاً من فصولها في كتابه “المغرب في الفكر الإسباني: كيف شكَّل الإسبانُ صورةَ المغرب في مِخيالهم عبر التاريخ”، بعد أنْ أخضعها لتحيين ملحوظ، بدليل إحالته إلى وقائع وأحداث وإصدارات بعضُها عَرفَتها سنة 2022، بينما صدرَ الكتاب عن “مكتبة سلمى الثقافية” في آذار/ مارس سنة من هذا العام.

يمكن النظر إلى “المغرب في الفكر الإسباني” بوصفه علامةً في مسير النقد المعرفي المغربي للخطاب الإسباني في تجلياته السياسية والفكرية والأدبية والفنية والمعمارية، الذي شرع في التشكّل نصِّياً وتاريخياً منذ زمن المفكِّر رامون لُولْ في القرن الثالث عشر، ولا يزال مستمراً إلى وقتنا الحاضر، مُحتَضَناً من قِبَل تيّارات في مؤسَّسات الدولة ومن المجتمع السياسي والأكاديمي في إسبانيا. يسائل مجدوبي النظرة الإسبانية المتوجِّسة والحذِرَة جدّاً تجاه المغرب، ويحاورُها، ويصوغ خطاباً نقدياً يُركِّز على اختلال الخطاب الأيديولوجي للمستعمِر السَّابق، الذي لا يزال إلى الآن في خطاباته المتنوِّعة ينحو إلى التغاضي عن كل ما هو إيجابي لدى المستعمَر سابقاً، فيَتَّخِذ مواقفَ (أزمة “جزيرة ليلى” أو “تُورا” أو “المعدنوس”)، ويُكرِّس احتفالات (مُورُوسْ إِي كْرِيسْتِيَانُوس)، ويُهوِّل ظواهر (الهجرة، الإرهاب، الصحراء) نازعاً إلى تغليب كفَّة التَّبخيس والشَّك، وفقدان الثقة في كل خطوة مغربية.

تساهَل المغرب في البداية بسذاجة تاريخية مع إسبانيا

ويستدرك المؤلِّف على الدولة المغربية، منذ ما قبل الاستعمار، أخطاءً جيوسياسية في التعامل مع الإسبان، لأنها تساهلتْ بسذاجة تاريخية مع إسبانيا في مناسبات عديدة. ويرى أنّ مواجهة الخطاب الإسباني المتوجِّس عمداً يكون بالمعرفة العميقة للآخر، لأجل تفادي ما سمّاه مجدوبي، في إحدى مقالاته، بـ”الفرص التاريخية الضائعة”.

لا يتردَّد المؤلِّف في الدعوة بشكل صريح إلى ضرورة الإيمان باقتدار المفكِّرين والأكاديميين، الذين يكادون لا يُلتفتُ إليهم من قِبل سياسيي البلديْن، على الإسهام إيجابيّاً في بلورة قواعد جديدة يُبنى عليها واقعٌ يضمن السِّلم والتعايش بين الشَّعبيْن والدَّولتيْن، لذلك يتمسَّك بأنّ الفكر، مثل ما كان وراءَ الترويج الصريح لمعاداة المورو-المغربي-المسلم والدعوةِ لطرده والقضاءِ على أثره في إسبانيا، بل والتوسعِ في أراضيه بالمغرب (رامون لُول، مثلاً)، فإنَّ رجال الفكر والأكاديميين بوُسعهم القيام بعكس ذلك عبر بلورة فكر مُضاد يقوم على محاورة نقيضه. 

الكتاب صادرٌ عن مغربي مُقيم في أوروبا، يكتب من داخل الثقافة الغربية، لكنهّ يُشدِّد على أنّه ينتمي إلى الجنوب. وبالتالي، فهو لا يتعامل بقدسية المنتَج الفكري الأوروبي، خاصة الإسباني، ما يُكسب عملَه قوة علمية وحرِّية كافية لكي يُوجِّه انتقاداتِه الموضوعية إلى هذا الطرف أو ذاك. لذلك يقترح حلولاً عملية أساسُها ما يُمليه منطق الجِوار والمصالح المشتركة والجغرافيا، وكلّها عوامل تفرض على الدولتيْن الاتجاه إلى التركيز على التفاهم وبناء الثقة على أساس رابح – رابح. 

نلمس، في هذا الكتاب القيِّم جداً، المنشور مترجَماً إلى العربية من قِبل مؤلِّفه، وعياً ما بعد كولونيالي يَصْدر عن نظرة مُنطَلَقُها أكاديمي، واهتمامٌ بتفكيك الخطاب الاستعماري الإسباني التوسعي بعد تعقُّبِه في المخيال الشعبي وفي المرتكزات الجغرافية والدينية والتاريخية ــ منذ نشأته الأولى على يدي مُنظِّره الكتلاني رامون لُول (1232 – 1316)، ولدى الملكة إيزابيل الكاثوليكية، المتبنِّيةِ له والمنافحةِ عنه عقب سقوط غرناطة سنة 1492 ــ إلى غاية سنة 2022، كاشفاً عن تحوُّل في تشكُّل هذا الخطاب من رهانٍ توسعي كانت غايتُه الهيمنة والاستغلال تحت يافطة إلحاق المغرب بركب الحضارة المسيحية، وتمكينه من إقامة دولةٍ يستتبُ فيها الأمن، إلى خطاب لا يُخفي التوجُّس والحذَر من المغرب، في الوقت الذي يهمُّه أن يُبْنى مع الجار الجنوبي مَصيرٌ مُشتَرَك.

لقد أفلح حسين مجدوبي في أن يصوغ خطاباً مضاداً يُناهِض الخطاب الكولونيالي الإسباني تُجاه المغرب، وأنْ يُفنِّد دعاواه وذرائعَه الاستعمارية لدى بعض مؤسساته السياسية والأكاديمية في إسبانيا، التي يسكُنها هاجس الارتياب في المغرب. كما يُلحّ على ضرورة التَّحرر من مغالَطاته عَبر اقتراح حلول معقولة وجريئة، يكون أساسُها علمياً وواقعياً؛ لعلَّ أبرزَ تجلِّياتها فصْلُ الإپستيمي عن الأيديولوجي الاستعماري في الخطاب الكولونيالي، بدءاً من مناهج التعليم ومروراً بالكنيسة والجمعيات… إلخ.

في الواقع، ينخرط “المغرب في الفكر الإسباني” ضمن ما يُعرَف بـ”الاستغراب”، أي ذلك العلم الذي أسَّسه المفكّر المصري الراحل حسن حنفي، الذي دعا إلى تصيير الغربِ موضوعاً للبحث كي يُواجَه به خطابُ الاستشراق، الذي حوَّل الشرق ببشره وثقافته وحضارته موضوعاً لبحثه، فيَكونُ “المغرب في الفكر الإسباني” كتاباً استغرابيّاً، ولو أنَّ مؤلِّفَه لم يُصرِّح بذلك، لكنّ وعيَه به واضح، لأنه صيَّر إسبانيا بتاريخها وفِكرها وأدبها وسياستها وسردياتها الكُبرى وظواهرها الاجتماعية وغيرِها موضوعَ بحْث من قِبَل التابِع المُستعمَر.

وإذا كان الاستشراق، كما نعلم، قد صيَّر أدب الشرق وفنَّه ومعمارَه وعاداتِه وسياستَه موضوعاً للبحث من أجل السيطرة على الشرقي وعلى خيرات بلاده، فإنّ الإسبان أبدعوا لذاتهم علماً هو “الاستعراب”، الذي جعلوه يختص بالعالَم العربي بدعوى وجودِ مُشتَرَك يجمعُهم بالعرب والمسلمين. بل إنهم أبدعوا “علماً”، سَمَّوه “الاستفراق”، ابتُكِر وتبنَّته مؤسّساتُ الدولة، خصوصاً المؤسِّسة العسكرية، ولو أنّ بلورتَه تنظيرياً كانت من قِبل خواكين كوستا، وتحريضياً من قِبل كانوفاس دِلْ كاستيِيُّو، وهو لا يختلف عن الاستشراق أو الاستعراب في استهداف قراءة الآخَر للسيطرة عليه واستغلاله، سوى أنه اختص بحيّز جغرافي محدَّد هو المغرب، الجار الجنوبي الذي اعتادت السردياتُ الكبرى لإسبانيا على التوجس والارتياب منه.

هكذا يكون “المغرب في الفكر الإسباني” استشراقاً مُضاداً، أو استغراباً، بل ربما يكون مقدّمة لحقل بحثيّ ينبغي التفكير في تسميته (قد نُطلِق عليه “الاسْتِسْبان”)، بتحويل إسبانيا أساساً إلى موضوع للبحث والدراسة في المغرب، بعدما توافرت في البلد مؤسسات جامعية عديدة فيها أقسام وشعب للدراسات الإسبانية، ومراكز ومعاهد للبحث العلمي عديدة. وينبغي أن تكون هذه المهمة إحدى غاياتِ هذه المؤسَّسات، ويُعنى فيها من بين أشياءَ أخرى بالدراسة الجينيالوجية، أي بنَسَب المعرفة التي تشكَّلتْ في إسبانيا عن المغربي، مع الانتباه إلى أن المعرفة -حسب فوكو- لا تُمثِّل حقيقة موضوعية مستقلِّة عن النشاط البشري؛ إنها خطابات متداخلة في ما بينها، تَصدُر عن مؤسسات متنوِّعة لها ارتباط بسياقات تشكُّلها وصيغة تنظيمها، وينبغي أن تُفْهَم ممارَساتُها وآلياتُها وإجراءاتُها الخطابية.

سيكتشف قارئ الكتاب، وهو يُتابع فصوله الشيقة، أنه عمَلٌ يزخر بتَمثُّلات مختلفة ووفيرة للإسبان عن المغربي، والحديث عن التمثيل مركزيٌّ في الخطاب الكولونيالي، ويؤكِّد لنا مجدَّداً أن خطاب الكتاب ما بعد كولونيالي.

سيُخطئ مَن قد يتصوَّر أنه سيعثُر طيّ هذا الكتاب على تعريف جامع مانع، أو دقيق ومُحكَم لصورة المغرب في الفكر الإسباني استناداً إلى التعريف البلاغي الكلاسيكي، أو إلى التعريف البلاغي الجمالي الحديث الذي اشتُهرتْ به كلية الآداب بتطوان ضمن مَبْحثَي الصورة الروائية أو بلاغة السرد، بل هو سيرورةٌ تاريخية لتشكُّل المعرفة بالآخَر المغربي من خلال وقائع تاريخية وخبرات ومعتقدات وفنون.