كتاب «المغرب في الفكر الإسباني»: دعوة من أجل تطوير العلاقات الثنائية بين ضفتي مضيق جبل طارق

يعالج الكاتب المغربي حسين مجدوبي مجموعة من المقترحات من أجل تطوير العلاقات الثنائية بين ضفتي مضيق جبل طارق: إسبانيا والمغرب، وهي عبارة عن «وصفة» تهم إجراءات الثقة في حقول متعددة، فكرية وسياسية واقتصادية، بهدف خلق فضاء ثقافي مشترك، لتفادي الاصطدام في عالم تتشكل خريطته الجيوسياسية من جديد.


في كتابه الصادر حديثا تحت عنوان «المغرب في الفكر الإسباني: كيف شكل الإسبان صورة المغرب في مخيالهم عبر التاريخ» يؤكد مجدوبي أنه «في ضوء الأحداث الصدامية للتاريخ في مضيق جبل طارق، تحتاج العلاقات المغربية ـ الإسبانية إلى خريطة طريق واضحة المعالم، غير مقيدة بالهاجس السياسي، ولا ترتبط بالزمن الآني، بل تتطلب حرية التفكير والاقتراح في معالجة كل المواضيع، بما فيها التي اكتسبت صفة «التابو» والعمل المشترك زمنيا لتطوير صمام أمان، يقلص من منسوب هيمنة غياب الثقة».

إجراءات الثقة المتبادلة

ويرى المؤلف أنه يمكن ترجمة خريطة الطريق هذه في تطوير عدد من إجراءات الثقة المتبادلة للتخفيض من حدة التوتر، ومحاربة الأفكار المسبقة نحو بناء فضاء ثقافي وسياسي عام ومشترك بين الدولتين والشعبين. ويوضح أن عملية بناء هذا الفضاء المشترك تحتاج إلى تصورات وجهود لترجمتها إلى واقع ملموس، وهي عملية ليست بالهينة للاختلافات العميقة بين الثقافتين، والصراع التاريخي بينهما، غير أنها ليست مستحيلة. ويذكّر مجدوبي بالمبادرة التي كانت أطلقتها «لجنة ابن رشد» في هذا الصدد خلال تسعينيات القرن الماضي، لكن كان مصيرها الفشل. ويقترح أنه «في ظل القصور الرسمي من لدن مسؤولي البلدين، يمكن للمجتمع المدني والمثقفين في ضفتي مضيق جبل طارق التفكير في تأسيس آليات الفضاء المشترك» مشيرا إلى أنه توجد فضاءات مشتركة جزئية في حاجة إلى التطوير والتجميع.


كما يشدد مؤلف كتاب «المغرب في الفكر الإسباني» على ضرورة مراجعة التاريخ المشترك، إذ يقول إن «كل محاولة لتأريخ جديد، يستدعي إعداد برامج تعليمية في مادة التاريخ، تتجنب النظرة العدوانية المبطنة في تقديم الآخر». ويقرّ بأن «عملية التوفيق بين الحفاظ على جذور تأسيس الهوية والانفتاح في آن واحد عمل صعب، فهي تتطلب جهدا ثقافيا وذكاء علميا لتأويل الأحداث التاريخية، بأقل منسوب من التوتر». ويوضح أكثر قائلا: «يمكن تلقين مادة التاريخ بنوع من التجرد الوطني، بمعنى يدرس المغربيّ مادة التاريخ حول المغرب والإسبانيّ حول إسبانيا وأحداث التاريخ المشترك، وكأنه تاريخ يتعلق ببلد مثل تشيلي أو أذربيجان، بعيدًا عن تجييش المشاعر الوطنية القائمة على البطولات».

على مستوى «الاحتراز الإعلامي» يذهب مجدوبي إلى القول: «للتخفيف من الدور السلبي للإعلام، يستحسن أخلاقيا الانطلاق من احترام الالتزام الاجتماعي للصحافة، ومن مبادئ أخلاقيات التواصل، وذلك لصياغة سلسلة من الاقتراحات حول نوعية الخطاب الصحافي الرامي إلى إرساء أسس ما نعتبره خطابا صحافيا وقائيا، يقوم بشكل أساسي على مبدأ تجنب التسيب في الذعر والإثارة التي توظف اصطدامات الماضي والاختلاف الثقافي مع الآخر، في التعاطي مع قضايا شائكة مثل الهجرة والإرهاب وإرث الماضي المشترك والصراعات الإقليمية»

أما في ما يخص «الإجراءات السياسية» فيشير المؤلف إلى أن المغرب وإسبانيا وقعا على اتفاقيات كثيرة خلال القرون الثلاثة الأخيرة، بهدف إقرار السلام وإرساء الحوار بين الطرفين، لكن تلك الاتفاقيات لم تصمد كثيرا أمام الحروب التي اندلعت والأزمات التي انفجرت. ويفيد بأن العلاقات الثنائية تتوفر في الوقت الراهن على اتفاقية الصداقة وحسن الجوار، كمرجع لحل النزاعات، ولجنة ابن رشد الاستشارية المكونة من خبراء من شتى القطاعات.


وحين يتطرق حسين مجدوبي إلى «الإجراءات الاجتماعية» يتوقف عند هجرة المغاربة نحو إسبانيا، خلال العقود الأخيرة، حيث يرى أنه من الضروري تحويل هذا الرأسمال البشري المهم إلى جسر مشترك بين البلدين، جسر ثقافي واجتماعي يقلل من الأحكام المسبقة، وأيضا جسر اقتصادي لمنح المهاجرين دورا في التبادل التجاري والاستثمارات.


بالانتقال إلى «الإجراءات الاقتصادية» يقول المؤلف إن المنطق يحتم تعزيز إجراءات الثقة المتبادلة في المجال الاقتصادي، لتحقيق نوع من التكامل الاقتصادي بين البلدين، وتحويل الاقتصاد إلى درع واقٍ يتصدى للانعكاسات والانحرافات السياسية، وهذه الوصفة تمر ـ من جهة ـ عبر أجندة إسبانية حقيقية تسهم في تطوير الصناعة المغربية، وتتجلى ـ من جهة ثانية ـ في التزام المغرب بعدم التضييق على الاستثمار الإسباني إبّان الأزمات. ويتعلق العنصر الأخير في «الوصفة» التي يقترحها المؤلف بـ»الإجراءات العسكرية» حيث يلفت الانتباه إلى أن عملية تعزيز إجراءات الثقة العسكرية بين البلدين لتفادي النزاعات الحربية تعدّ أمرا ضروريا، وقد يكون منطلق هذا المسلسل هو تعزيز أجندة موجودة، لكن تطبيقها شهد فتورا خلال السنوات الأخيرة، وتتجلى في الرفع من المناورات العسكرية بين جيشي البلدين، ثم المشاركة في عمليات حفظ السلام الدولية، والانضمام إلى منتديات متعددة مثل مجموعة خمسة زائد خمسة التي تضم دول ضفتي غرب البحر الأبيض المتوسط. وأخيرا تفادي تأثر العلاقات العسكرية بالأزمات السياسية التي تندلع بين الحين والآخر.

معرفة الآخر

على صعيد آخر، يقول حسين مجدوبي إن التطور السليم للعلاقات المغربية ـ الإسبانية يتطلب تطوير المغرب لمدرسة «هيسبانية» صلبة، موضحا أن القرب الجغرافي الذي يفرض إسبانيا جارا أبديا يفرض بالضرورة معرفة الآخر الذي هو إسبانيا شعبا ومؤسسات، معرفة دقيقة وعميقة. ويلاحظ في هذا الصدد أن المكتبة المغربية تفتقد إلى كتب حول تاريخ هذا الجار الأوروبي مكتوبة من زاوية نظر مغربية، مع بعض الاستثناءات، كما تفتقد الساحة المغربية لمركز تفكير استراتيجي ينتج بانتظام تقارير حول إسبانيا. ويضيف المؤلف أنه أمام إهمال الدولة المغربية للدراسات حول هذا البلد، وأمام تراجع الإسبانية كلغة في المغرب، أسس كتاب وباحثون مغاربة جمعيات «هسيبانية» لكن هذه المبادرات لم تحقق النجاح المنشود بسبب غياب الدعم الرسمي أو الافتقاد للموارد الكافية.


بالإضافة إلى ما سبق، يحلل المؤلف العوامل المؤثرة في الفكر الإسباني تجاه المغرب خاصة على مستوى المخيال الشعبي والمرتكزات الجغرافية والدينية والتاريخية والفكرية والسياسية. ويتناول أيضا المغرب في الإنتاج الفكري بعد الانتقال الديمقراطي، ثم المغرب في الإعلام والأدب الإسباني، وأخيرا أجندة العلاقات الثنائية التي تحكمها قضايا الهجرة والنزاعات الترابية والبحرية.
هكذا، إذنْ، يتبدّى كتاب حسين مجدوبي الجديد الواقع في حوالي 300 صفحة من القطع المتوسط، بمثابة عملية إبحار عبر حقبة زمنية متسلسلة كرونولوجيا، منذ «حروب الاسترداد» (أو سقوط الأندلس) إلى النصف الأول من العقد الثالث من القرن 21، لمعرفة الكيفية التي جرت بها صياغة الصورة أو التصور حول المغرب في مختلف مظاهر الفكر الإسباني، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وعسكريا ودبلوماسيا.