قهوة من غير سكر”تتمة”

عبد الغفور مغوار

   رددت الحشود: «لا … لا … يحيى الشعب … يحيى العدل …»

زادت ثقته بنفسه أكثر فطوي الورقة وأعادها إلى جيبه الخلفي وأطلق العنان لأفكاره وصعد من لهجته بنبرة مغايرة:
   «إلى متى ستظل المدينة على حالها وأنتم أدرى به وأعلم؟ إلى متى سيظل الصمت علامة الرضا والمتكلم أظلم؟»
   عم السكون، وانخفضت الرقاب ومن الحضور من رأى أن في انسحابه خير، فطائفة جرت ذيولها فورا، وأخرى تأهبت لمغادرة الساحة في خطى متثاقلة، والفئة الباقية استسلمت لسحر الكلمات لما أردف قائلا:


   «أيها الناس لا بقاء إلا بالانضباط والأمانة، وكم من أمم صارت بائدة بتفشي الخيانة، ارضوا ضمائركم قبل فوات الأوان حيث لا تنفع الندامة! ارعوا الذمم والقيم المثلى وكافئوا بالتقدير أهل الاستقامة!»


 كان يتحدث كالزعيم الذي لم يخنه التعبير فاستنهض العزائم ببلاغة عجيبة، فلم يخطر بباله أن يطرح أزمته المادية بسبب بطالته التي طال عمرها. لم تخنه الكلمات فواصل:


  «ستأتي بعدنا أجيال تحاسبنا وتدين فينا غياب الحزم، ستتنكر لنا فماذا حققنا لهم فيشفع لنا يا قوم؟ ألا إن التاريخ يوثق وما أحذق وأدق وسائل التوثيق اليوم!»


  في هذه اللحظة شرع من بقي من الناس يأخذون له صورا إما بهواتفهم المحمولة أو بواسطة مصورات رقمية، يا لروعة المنظر: فلاشات من هنا وأخرى من هناك وكأن الساحة مركب رياضي غربي.


  وهو في غمرة الانتشاء بهذا المشهد البطولي انتشلته يد الواقع وقاطعت غفوته. فقد رمقت عيناه شرطي المدار وهو يتوجه إلى المقهى بعد أن أنهى دوريته. تجرع مضطربا ما تبقى من قهوته المرة دون أن يسمح لامتعاضه من طعمها أن يتجلى على قسمات وجهه الذي أخذ في الاصفرار أكثر. حول اتجاه نظراته يسارا فوقعت عينه على النادل الذي كان يتفرسه بازدراء، غير اتجاه نظراته مرة أخرى ناحية أخرى من الشارع فرأى شرطيا آخر كان يحدق به.  نهض مسرعا وكله ارتباك، ثم عاد متعثرا ليضع ثمن الضيافة على المنضدة ويتناول نسخة الكلمات الموجهة التي كتب على ظهرها هاتين الكلمتين (إلى متى…) من يدري؟ قد تجلبا له المتاعب وهو في غنى عنها.


  «أي قهوة هذه مثيرة للخيال!» تعجب في صمت موليا أدراجه إلى مقهاه البسيط وكله شوق في جلسة شعبية وقهوة أخرى بقطعتين سكر ونكهة طيبة.