قهوة من غير سكر

عبد الغفور مغوار

وضع على رأسه الأشعث قبعته الشاحبة الزرقة بفعل أشعة الشمس وطول الاستعمال. تردد أولا في ارتداء ‘الجاكيت’ البرتقالية المرقطة بألوان عدة لكن سرعان ما ارتداها دون تكليف نفسه عناء البحث عن غيرها لعلمه الشديد بعدم توفره على أفضل منها. اِلتقط نظارته الطبية وعلبة لفافات تبغ رديئة وانصرف قاصدا مقهى الحي المتواضع وفي نفسه امتعاض كبير من هذه العادة المقيتة التي ليس بوسعه الآن أن يقلع عنها. فأن يتردد على مقاه فاخرة وأماكن جميلة ووثيرة كانت رغبته الدفينة وهو يرجئها إلى حين يتيسر الحال وتنجلي غمامة الحظ العاثر.


 على امتداد الزقاق المؤدي إلى الشارع الرئيسي بالحي لم يفكر بشيء، لكنه على بعد بضع خطوات من مقهى الأصدقاء توقف قليلا حيث دارت بذهنه فكرة التمرد على هذا الروتين بتحويل اتجاهه إلى العكس. بخفة ورشاقة تابع خطواته إلى الأمام تاركا خلفه مقهاه المعتاد مطأطئا رأسه وعيناه تتأملان مشيته الغريبة وحذاءه الذي أهمل تلميعه منذ مدة يجهلها. فكر بشيء أهم: أن يشرب قهوته في مكان ما مريح لا يعرفه فيه أحد. لهذا تعمد أن يستأنف سيره بعيدا.

لم يقو على مقاومة رغبته في إشعال سيجارة طويلا فقرر الولوج إلى مقهى لم يكن موجودا من قبل في هذه الزاوية من الشارع. فضل أن يأخذ مكانه بجانب الحاجز الزجاجي الذي يتيح رؤية عامة للشارع. ألقى نظرة خاطفة على فضاء المقهى الجديد بحثا عن النادل الذي تماطل في المجيء إليه ليسأله ماذا يتناول. أدهشه أسلوبه الجاف لكنه لم يكترث للأمر وطلب فنجان قهوة من غير سكر. تعجب من نفسه إذ قرر لأول مرة أن تكون قهوة من غير سكر. أخذ مكانه وأوقد سيجارته وشرع يشربها بشكل يوحي بأنه لم يشربها منذ أمد طويل. أحضر النادل القهوة فوضعها على المنضدة بحركة بعثت في نفسه شعورا أنه زبون غير مرغوب فيه. هو بدوره لم يلتفت إليه لما نفث الدخان وتنهد بعمق ثم ارتشف رشفة أولى من قهوته المرة.


  «يا لطعم هذه القهوة المحروقة!» قال بامتعاض وقد تقلصت عضلات وجهه الذي لا دم عليه إطلاقا.
وجه نظرة إلى الشارع وحدق في المارة متسائلا باستغراب:
  «لم يمشي الناس ببطء شديد هكذا؟ هل هم في عطلة؟»


  لم يعد يعير اهتماما بالزمن نظرا لفراغه. فهو قد ينسى تماما ما الشهر وما اليوم.  دفعت به كلمة (عطلة) إلى متاهات الخيال. غير أن صوت الموسيقى الصاخبة التي تقدمها (إف.إم) أخرجته من خياله فأخذ من سيجارته نفسا آخر أعمق وارتشف رشفة من فنجانه، ثم واصل التحديق بالشارع. كان المدار عبارة عن نافورة قد غيروا هندستها منذ شهور لكن لم يسبق له أن شاهدها من قبل في شكلها الجديد. تأملها مليا ولم يقاوم خياله الذي جعله يراها منصة كبيرة عليها مكبرات صوت ومنبر، قد نصبت خصيصا لمن له ما يعبر عنه ويهتف به كما هي العادة في بلاد أجنبية حُـكـيَ له عنها.  
 «ماذا لو كان هذا حقيقة بهذا البلد؟» قال في صمت محركا رأسه يمنة ويسرة. 


  طار به الخيال على وجه السرعة، فوجد نفسه قد توسط المنصة بكل هدوء وسكينة، تناول الميكروفون بيمناه، وبيسراه أخرج ورقة من جيب سرواله الخلفي، عدل من وضع النظارة وحيى الناس القلائل الذين تحوموا حوله. تلعثم في البداية قائلا:
  «أيـ…ها … النا…س. أيها الناس، إن الحق حق ومهما يـُعـتـم عليه سيبقى ساطعا نوره جليا والباطل باطل ولو وضعت عليه كل مساحيق الدنيا.»


  ضحك الناس وتعجبوا لمطلع الخطبة. التمس منهم الهدوء بالإشارة، ثم أضاف:
  «لا عجبا إن طفح الكيل وبلغ السيل الزبى أن نقول مرة آه، ليس عارا أن ننتقد الواقع قبل أن تحل بنا لعنة حيث لا تجدي: ‘واأسفاه!’.»


   تواصل الضحك وهاج الحشد سخرية، لكن واصل الاحتجاج وشدد من لهجته:
  «أيها الناس ليس لنا في بلاد الله من عدو إلا النفس فحاسبوها، وليس لنا من نافع إلا القيم فصونوها.»
  أطرق الجميع السمع فساد الهدوء كأن سحرا رهيبا سلب الجمهور أرواحهم. وأضاف رافعا من صوته:
  «ألا إن أوهن النواميس ما كان بدعة أو تقليدا أعمى، ألا إن الحرية رأسمال فلا تبذروه إسرافا بغير مكان. حرروا أنفسكم من ضلال التبعية وزودوها بزاد الفضيلة، واقتلوا فيها الخنوع الغير مبرر وشهوة الرذيلة. النظام أمانة فليعم المدينة فإنه أساس الحضارة والأمان.»


  صفق الناس وهتفوا بشعارات مؤيدة للسلم والحرية مرددين:
  «يحيى الشعب… يحيى العدل …»


  عاد السكون لما أراد مواصلة الحديث:
  «أيرضيكم وباء أصاب المدينة فنال لا قدر الله من أهلكم نيلا؟ أو أصابكم الطوفان فتشرد منكم من تشرد والآخرون كانوا قوما غفلا؟ أترضون بالخذلان مبدأ إذ أنتم هدف لكل طامع لعين؟ أترضون بغير الغيرة حينها والذود عن تماسككم المتين؟»
   رددت الحشود: «لا … لا … يح…