اللغة الأمازيغية من أولويات الوثيقة الدستورية بالمغرب “سلسلة1”

مراد علوي :باحث في القانون الإداري و المالي ب جامعة محمد الخامس أكدال بالرباط .

إن هذا السياق العالمي الذي أشرنا إليه آنفًا، أسهم في بروز عدة مفاهيم أضحت تؤطِّر النقاش الدولي حول اللغات وتدبير التعدد اللغوي، ويعتبر مفهوم العدالة اللغوية  (1) (Linguistique Justice)  من المفاهيم الدالَّة في مقاربة التعدد اللغوي من زاوية حقوقية؛ إذ يمكن اعتبارها هي الوقوفَ على مسافة واحدة من أفراد المجتمع من دون تحيز لطرف على حساب آخر، فهي نمط من العلاقة الاجتماعية أو السياسية يجري بموجبه معاملة كل شخص أو جماعة على أساس المساواة، وذلك استنادًا إلى منظومة القيم السائدة في المجتمع، وتقع اللغة ضمن الحقوق الشخصية للأفراد والجماعات التي يضمنها القانون، وهي محاولة أو آلية يتحقق بها العدل بين اللغات (2) .

  • قول في إدماج الأمازيغية : 

إن الحديث عن الأمازيغية تاريخًا وواقعًا وحتى حاضرًا، هو حديث يقتضي الإحاطة بالتاريخ والجغرافيا؛ ذلك أن عددًا من المصادر التاريخية، يشير إلى أن الأمازيغ، قد شكَّلوا النواة الأولى للسكان الذين ثبت استقرارهم بشمال إفريقيا عمومًا والمغرب جزء منه. كما  أن الاعتراف الدستوري بالأمازيغية بعد دستور 2011(3)، هو في الحقيقة اعتراف بهذا التاريخ وبالواقع، كما أن الأمازيغية أسهمت بحظ وافر في الحضارة المغربية وقد شكَّلت على الدوام رافدًا أساسًا في إغناء الشخصية الوطنية المغربية.

ولقد شكَّل صدور كل من القانون التنظيمي رقم 26.16 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل  الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية(4)، وكذا القانون التنظيمي رقم 04.16 المتعلق بالمجلس الوطني للغات والثقافة المغربية(5)، إيذانًا بانطلاق مرحلة جديدة في مسار الأمازيغية، لغة وثقافة وآدابًا. هذه المرحلة التي تمثل تحديًا وطنيًّا استجابة للمقتضى الدستوري المهم الذي نصَّ على أن “الأمازيغية تعد أيضًا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدًا مشتركًا لجميع المغاربة بدون استثناء”.

  • ملمح في السياق السياسي والحقوقي المرتبط بإدماج الأمازيغية :

يمكن في هذا الصدد أن نذكِّر ببعض المحطات المفصلية في رسم معالم السياق السياسي والحقوقي بالمغرب، والذي كان له دور حاسم في التسريع بعملية إدماج الأمازيغية في الفضاء العام، ويمكن اعتبار صدور ميثاق أكادير حول اللغة والثقافة الأمازيغيتين(6)، سنة 1991، وتوقيعه من طرف عدد من الجمعيات وإرساله إلى الدوائر الحكومية والحزبية، بمنزلة الانطلاقة الفعلية لرسم معالم تحرك مدني واع بالنهوض بالأمازيغية، لتتبعه بعد ذلك إشارات سياسية من طرف الدولة، وبالخصوص من المؤسسة الملكية؛ حيث دعا الراحل، الملك الحسن الثاني، في خطاب 20 أغسطس/آب 1994، إلى “ضرورة العناية بالأمازيغية وتدريسها بالتعليم الابتدائي على الأقل”.  كما كانت مناسبة المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان المنعقد في فيينا، صيف 1993، حيث وقَّعت جمعيات أمازيغية مذكرة حول الحقوق الثقافية الأمازيغية ووجهتها إلى المؤتمر العالمي، إضافة إلى توجيه مذكرة مشابهة للأحزاب السياسية والحكومة والبرلمان في نفس التوقيت، وتأسس إثرها المجلس الوطني للتنسيق   بين الجمعيات الأمازيغية بالمغرب، في فبراير 1994.

وقد شكَّل اشتغال المغرب على إعداد الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي صدر سنة 1999 فرصة سانحة للحركة الأمازيغية لتجديد مطلبها في تعزيز وضع الأمازيغية في منظومة التربية والتكوين؛ وهو ما حدث حيث أُدرِجت باعتبارها واقعًا وطنيًّا ضمن أوراق الملف اللغوي في الدعامة التاسعة (تحسين تدريس اللغة العربية واستعمالها وإتقان اللغات الأجنبية والتفتح على الأمازيغية) وخاصة البنود 115 و116 و135، وقد تلاه الكتاب الأبيض حول المناهج التعليمية الذي قرر إحداث حصة لتعلم اللغة الأمازيغية في التعليمين الأولي والابتدائي .

كما شكَّل الواقع السياسي المترتب على حكومة التناوب التوافقي سنة 1998، فرصة    مهمة لتحريك عجلة إدماج الأمازيغية بالنظر للفرص التي أتاحها الانفتاح الجزئي للأجواء السياسية من إعطاء نَفَس جديد لعملية إدماج الأمازيغية. كما لعب “البيان الأمازيغي”(7)، سنة 2000، للأستاذ محمد شفيق دورًا مهمًّا في هذا الصدد، والذي وقَّعه أكثر من مئتين من المثقفين المغاربة، وأُودِع لدى الحكومة المغربية. لتتوالى بعدها الإشارات السياسية من أعلى سلطة في البلاد، خاصة في خطاب “العرش” لسنة 2001، والذي يمكن اعتباره خطابًا مرجعيًّا مهمًّا في تعزيز مكانة الأمازيغية، وقد جرى بموجب خطاب “العرش”، 2001(8)، إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية(9) .

ومما جاء في نص هذا الخطاب: “حرصًا منًّا على تقوية دعائم هويتنا العرقية؛ واعتبارًا منّا لضرورة إعطاء دفعة جديدة لثقافتنا الأمازيغية، التي تشكِّل ثروة وطنية، لتمكينها من وسائل المحافظة عليها والنهوض بها وتنميتها؛ فقد قررنا أن نُحْدِث، بجانب جلالتنا الشريفة، وفي ظل رعايتنا السامية، معهدًا ملكيًّا للثقافة الأمازيغية”.

وكذلك خطاب الملك بأجدير، 2001(10)، الذي أكد فيه الملك على: “أن الأمازيغية، التي تمتد جذورها في أعماق تاريخ الشعب المغربي، هي مِلك لكل المغاربة بدون استثناء ، وعلى أنه لا يمكن اتخاذ الأمازيغية مطية لخدمة أغراض سياسية، كيفما كانت طبيعتها”. كما اعتبر جلالته “… النهوض بالأمازيغية مسؤولية وطنية، لأنه لا يمكن لأية ثقافة وطنية التنكر لجذورها التاريخية. كما أن عليها، انطلاقًا من تلك الجذور، أن تنفتح وترفض الانغلاق، من أجل تحقيق التطور الذي هو شرط بقاء وازدهار أي حضارة”.

كما كان لتأسيس هيئة التحكيم المستقلة في عام 1999، وهيئة الإنصاف والمصالحة في 2004، وما ترتب عليها من إطلاق مسار العدالة الانتقالية، دور بارز في تعزيز الجهود الحقوقية للنهوض بالأمازيغية باعتبارها مسؤولية وطنية مشتركة، ومِلكًا لجميع المغاربة دون استثناء. (يتبع)