يوم بالمركز الإقليمي للأورام بأكادير

طابور طويل، أغلب الناس في وضعية الوقوف، كراسي الانتظار المتوفرة عليها أجساد مثقلة بهموم المرض العضال، لا مكان شاغر حيث الظلال، يفترش البعض العشب أو الأرض، ويفترش البعض متاعه حقيبة كان أو ملفا، ويفترس المرض أجسادهم رويدا رويدا، لا يفرغ كرسي أو سارية حتى يتوجه إليها اثنان او ثلاثة من الواقفين؛ كل مرافق لأحدهم يعتبره حالة مستعجلة وأولى بالاستقبال من غيرها، ينشأ الطابور من ساعات الفجر الأولى، ويُتَوَافَدُ إليه حتى منتصف النهار قبل نهاية الدوام.
ينظر الجميع صوب الباب المعدني حيث يقبع خلفه الامل، الامل في حياة سعيدة بلا مرض، الأمل في حياة بلا مرض وبلا سعادة، أمل مسجون لا يعلم متى يُطلق سراحه أو يقضي نحبه دونه. ينادى على الأسماء إذا وجد ملفها بين أكوام الملفات المتراكمة، بعد سماع الاسم يهرول المرافق لنقل مريضه الذي يحث أغلبهم بخطوات متثاقلة، كطفل اكتشف المشي لتوه، يستند المصاب على مرافقه ويخطو نحو الباب، فيعبره إلى غرفة رحبة بنوافذ مطلة على بهو المركز، ليبدأ طابور انتظار آخر للقاء ملائكية من ملائكة الرحمة.
يدوم الفحص دقائق حسب الحالة، فتحكم الطبيبة بالعقاقير لأيام، أو شهور، أو سنوات، أو بالمؤبد؛ وقد توجه الحالة لتلقي جلسة من الاشعة، أو جرعة كيماوية من سم الافاعي؛ ليتجدد اللقاء، حسب الحالة، بعد أسبوع كحد أدنى أو عام كحد أقصى، كلما قصرت المدة كانت الحالة مستعصية.
تسمع في الطابور أنينا من حين لآخر، والمتوجع شيخ أو عجوز عجفاء لطول المعاناة، امتص المرض الخبيث لحمها، والتصق الجلد المجعد بعظمها. في غرفة مجاورة ومظلمة تطل من واجهتها الزجاجية عجوز وديعة مستلقية على سرير متحرك، تطل بعينين ماتت الحياة فيهما، ولم يبق إلا الامل… ذاك الأمل…
يتعامل الحراس وأغلب الأطر الطبية بطيبة غير معهودة في باقي البنايات الاستشفائية، لا ريب تعاطفا مع طبيعة المرض والمرضى، فيسمح لك الحارس مبتسما بإدخال السيارة رغم المنع، وبأدب يطلب منك إخراجها بعد إنزال المريضة؛ تبتسم الطبيبة ما أمكنها ذلك، وتسأل المرضى عن أحوالهم وتنصت باهتمام لأهاتهم؛ تفحص ما يمكن فحصه ثم تضع السائل الكحولي على يديها تعقيما، وتتأسف لمريض يشكو قلة ذات اليد، إذا طلبت تحاليل مخبرية أو صور إشعاعية باهظة الثمن ولا تلقى أي حماية اجتماعية بخصوصها.
اللافت، مع الأسف، أننا شعب يستبيح المال المشترك، فكل الكراسي المدولبة الخاصة بالمركز لنقل العاجزين من المرضى، إما مكسرة لعدم العناية منا، أو منهوبة لا أثر لها؛ لذلك لم يكن غريبا بين الفينة والأخرى أن تلحظ امرأتين تنقلان معا عجوزا مريضة، تتولى إحداهما رجليها النحيلتين، والأخرى كتفيها الفارغتين، مشهد يرثى له اسفا على حالنا…
نختلف كثيرا في تحديد أولوياتنا المشتركة، فينادي بعضنا بالعدل أولا، والبعض بالصحة أولا، والاخر بالتعليم أولا، والاخر بالشغل أولا…، كل يغني على ليلاه، ويعتبر حاجته أولى الأولويات؛ والحقيقة أننا في حاجة إلى التربية أولا، إحياءً لضمائرنا الميتة، وإقبارا لأنانيتنا الفجة، لنحترم بعضا بعضا، ليؤدي كل منا واجباته أولا، بنكران ذات، قبل أن يسأل عن حقوقه، لنتقاسم أموالنا العامة والمشتركة بنفس العناية والاهتمام الذي نوليه لأموالنا الخاصة.
أيها القراء: الصحة تاج فوق الأصحاء لا يراه إلا المرضى!!
: التوقيع : ج.ل
تعليقات