محمد الشرقاوي يكتب .. شهامة الملك أفضل من تعاطف أمريكا!
غابت عبارة “شراكتنا الإستراتيجية” التي ذكرها بيان البيت الأبيض عام 2002، و اختفت الإشارة إلى “الحوار_الاستراتيجي” الذي كان عنوان العلاقات المغربية الأمريكية في السنوات الست الماضية.
وتعطلت لغة الكلام عن غيرهما من الأرصدة السياسية بين الرباط وواشنطن لتحل محلهما عبارة “#حقوقالإنسان، بما فيها “حريةالصحافة”.
جاءت هذه العبارة في مقدمة تغريدة مقتضبة من 34 كلمة نشرها وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن عقب أول اجتماع مباشر له مع نظيره المغربي ناصر بوريطة على هامش الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي المناهض لداعش في روما الاثنين.
فكانت تغريدة مقتضبة: “لقاء جيد اليوم مع وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة لاستعراض مصلحتنا المشتركة في السلام والاستقرار الإقليمي وحقوق الإنسان، بما فيها حرية الصحافة. كما ناقشنا التطورات في ليبيا ورغبتنا في رؤية الاستقرار والازدهار هناك”.
وتنطوي هذه التغريدة على ملخص يختزل الضوابط الراهنة للعلاقات المغربية الأمريكية، وهي إشارةٌ ضمنيةٌ إلى مدى اهتمام واشنطن في حقبة الرئيس بايدن بالاعتقالات والأحكام القضائية وتعثر مسار العدالة بالنسبة لنشطاء حراك الرّيف والصحفيين بوعشرين والريسوني والراضي وغيرهم، مما يعكس ردّة حقوقية تدمغ سمعة المغرب وعلاقاته مع العواصم الغربية.
تتفادى الرباط الحديث عن حقوق الإنسان وحرية الصحافة في لقاء بوريطة وبلينكن، وتفضل عبارات بديلة مثل قولها إن الوزيرين بحثا “العلاقات الثنائية والتطورات الإقليمية الراهنة، بما في ذلك الوضع في ليبيا والشرق الأوسط،” وأن “السيد بلينكن أشاد بالدور الذي يضطلع به المغرب في تحقيق الاستقرار في منطقة موسومة بالاضطراب،” كما جاء في بيان وزارة الخارجية المغربية.
قد تميل لغة الدبلوماسية في الرباط إلى التصرف والانتقاء بين المنقولات والمتروكات مما دار في اجتماع روما. وقد تعمد بعض التعليمات إلى فرض تخريجات معينة للحفاظ على خطاب التعبئة الداخلية، وتقديم الدبلوماسية المغربية وكأنها تحرز “فتوحات” متتالية، أو تمثل النموذج الذي “يصنع الحدث”، أو تتدفق عليها عبارات “الإشادة” من شتى العواصم الكبرى.
لم تحضر قضية “اعتراف” أمريكا بمغربية الصحراء، ولا إعلان موعد تشييد القنصلية الأمريكية “الموعودة” في الداخلة خلال محادثات بوريطة وبلينكن. ولم يعد وزير الخارجية في حكومة بايدن يشير إلى أهمية “التطبيع” ومكاسبه لصالح العلاقات بين المغرب وإسرائيل، بعد تخليه غير المعلن عن تأييد “اتفاقات_أبراهام” عقب جولته بين تل أبيب ورام الله والقدس والقاهرة وعمّان لضمان الهدنة بعد حرب القذائف بين إسرائيل وحماس ومحاولات ترحيل 300 من الفلسطينيين من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية.
لم يشر بلينكن أيضا إلى مكانة التعاون الاستخباراتي ومكافحة الإرهاب أو المناورات العسكرية المشتركة، أو ما تعتبره الرباط محورا رئيسيا في التعاون مع واشنطن، بل شدد على “مصلحتنا المشتركة في السلام والاستقرار الإقليمي وحقوق الإنسان بما فيها حرية الصحافة”.
ولم تأت أولويات واشنطن بهذا الترتيب بشكل عرضي أو بمحض الصدفة، بل تعكس الفروق بين حكومة بايدن وحكومة ترمب. لقد أصبحت فلسفةحقوقالإنسان أحد أضلاع السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة، بجانب الواقعية السياسية، سواء إزاء روسيا واعتبار قضية اعتقال المعارض أليكسي ناڤالي ضمن دواعي فرض العقوبات الأمريكية على ثمانية من الشخصيات في محيط الرئيس بوتين في الكرملين، أو إزاء الرئيس الإيراني المنتخب إبراهيم رئيسي الذي يوجد إسمه على قائمة العقوبات الأمريكية.
في مقالة بعنوان “أمل في مصالحةوطنية مغربية” نشرتها في 27 فبراير الماضي، كتبتُ هذه الخلاصة: “سيحلّ يوم يصبح احترام حقوق الإنسان ضمن ضوابط الحوار والتعاون بين واشنطن والرباط. ستتحرك السياسة الخارجية لحكومة بادين على مسارين متوازيين: مسار الواقعيةالسياسية وخدمة المصالح الاستراتيجية الأمريكية ومسار تكريس الحريات العامة ضمن سياسة القيم التي لا يتبناها الرئيس بايدن باعتباره أحد الديمقراطيين المعتدلين فحسب، بل تصر عليها نائبته كمالا هاريس وعدد ليس بالقليل من أعضاء حكومته ممن يمثلون الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي والذي يقوده السناتور بيرني ساندرز وإليزابيث وورين. وشرط احترام حقوق الإنسان ليس ترفا سياسيا بالنسبة لفريق بادين، بل هو ضرورة استراتيجية لاستعادة المصداقية والاحترام للولايات المتحدة في أعين العالم.”
وفي الثلاثين من أبريل، نشرت الواشنطن بوست مقالة افتتاحية بعنوان “الصحفيون المسجونون في المغرب يستحقون اهتمام حكومة بايدن” خلصت إلى القول “يجب على النظام المغربي أن يطلق سراح الريسوني والراضي قبل أي منحهم مزايا سياسية إضافية من الولايات المتحدة.”
لكن هذه القراءة التفكيكية لموقف بلينكن وروافده مما يدور في واشنطن السياسية، وكيف غدت قضية حقوق الإنسان على رأس أولوياته في مسار التعاون مع الرباط، ليست دعوة للتهليل لإرادة حكومة بايدن أو الانبطاح لاستراتيجيتها الجديدة في العلاقات الدولية. ولا تنم بتاتا عن أي قناعة بالاستقواء بالغرب أو مناصرة التأثير الخارجي في شؤون دولة عريقة تتمسك بسيادتها واعتبارها المعنوي، وتفاخر بأنها كانت أول دولة اعترفت باستقلال الولايات المتحدة عن التاج البريطاني عام 1777.
هي ببساطة دعوةٌ من صميم القناعة بخيارات المغرب في إدارة سياسته الداخلية والخارجية، ورؤيةٌ عمليةٌ أيضا لتعزيز إرادة المغرب في أن يكون دولة إصلاحات ديمقراطية، ونظاما سياسيا يصحّح ذاته بذاته على غرار ما تقوم عليه الفلسفة السياسية الأمريكية، وهذا تطور مرن في الأنظمة السياسية الحية لا يختلف حوله دعاة الواقعية السياسية ودعاة سياسة القيم على حد سواء.
هي دعوة أمل وإيمان بأن يطلع فجر يوم جديد عمّا قريب تتناقل فيه وكالات الأنباء والقنوات الأمريكية والعالمية بأن ملك المغرب قرر الإفراج عن سجناء حراك الرّيف ومعتقلي الرأي كافة، وأنه يجسد نموذج الحكامة المتروّية بعيدة النظر، في غنى عن أي رسائل دبلوماسية أو مواعظ سياسية تأتي من عواصم بعيدة.
هو ملك “الإنصاف والمصالحة”، وملك “حقوق المرأة ومدونة الأسرة”، وملك “إنهاء الفساد”، وملك “إلغاء المظالم”، و”الملك المنوّر”، كما وصفته دراسة نشرتها مؤسسة كارنيغي ذات يوم، لا تستعصي عليه الشهامة السياسية في استعادة زخم العهد الجديد.
ومن شأن أيّ قرار في هذا الاتجاه أن يفحم الوزير بلينكن ونائبة الرئيس هاريس وكافة ديمقراطيي الكونغرس بأن ملك مغرب التجديد السياسي يصنع الحدث، ويترفع عن كافة التحفظات والوصايا والرسائل الدبلوماسية.
يعود معتقلو الرأي والحراك إلى عناق أمهاتهم وأبنائهم بعد خريف حقوقي مكفهر. ويكون الملك بذلك رائد الحِلم السياسي والعفة القضائية والمصالحة مع الحرية وحقوق الإنسان. لقد حان الوقت لكي يعيد المغرب النظر في مكانته ضمن المؤشرات الدولية وفي أعين العواصم الأجنبية، فيعود بلينكن للحديث عن “شراكتنا الاستراتيجية” و”حوارنا الاستراتيجي” والإشادة بمغرب الحقوق والحريات، بدلا من اللوم على “حقوق الإنسان بما فيها حرية الصحافة”.
تعليقات